لا زلت احفظ بعضا من القصص والروايات والتى كان يرويها جدى على مسامعنا على ضوء القمر بأحدى ليالى الصيف عندما كان افراد الاسرة وبعض الاقارب يجتمعون فى جلسة شاهى عائلية امام منزل العائلة ..عندها لم تكن مصابيح النيون واعمدة واسلاك الكهرباء قد عرفت طريقها الى اقصى الجنوب الليبى ,و كان فانوس كيروسين او موقد نار كفيلا لارشاد غريب او هداية ضال يتلمس طريقه فى ظلمة الليل الى غايته فى اتجاه القرية .
كان حديثه ذو شجون والكل كان ينتظر بما تجود به قريحته وداكرته من اخبار الاولين من قوم التبو فى غابر الازمان وكان عادتا ما يستدل حديثه بالامثال والحكم التباوية كوسيلة للتاثير واقناع مستمعيه بحديثه,كانت ليالى جميلة رغم ظلمتها تجمع الاحبة والاقارب حول الكانون وهو موقد النار استعدادا لاعداد الشاهى الاخضر شراب جدى المفضل.
جدى رجل امى لم يكن يعرف الكتابة او القرأة ولكنه كان يحفظ آيات قصيرة من الذكر الحكيم يتلوها فى صلواته بلغة عربية ضعيفة ممزوجة بلكنة تباوية , اما الدعاء بعد الصلاة فكان يدعوا ربه باللغة التباوية , ولازلت احفظ بعضا من ادعيته ..جدى كان ذكيا بالفطرة حيث كان يوصل رسائله الى احفاده ومستمعيه بطريقة ذكية من خلال القصص التى كان يرويها لنا..اذكر قصة دلك الرجل من أقاربه والدى كان قد أخد الثأر من قاتل احد اقاربه ويسمى بلغة التبو (غرضى) وهو اسم الفاعل من كلمة (غرى) وهو الدم بضم وادغام حرف الغين والدى مضى علي قصته عمر جيل كامل... وأذكر كيف كان يحكيها لنا بحماس وقد اختفت تجاعيد وجهه وعلامات شيخوخته نتيجة حماسه واعجابه بقريبه..لقد عرفت من خلاله معنى كلمت (كهانوا) باللغة التباوية والتى اعتقد ان مصدرها كلمة اهانة باللغة العربية وقد حرفت الى كهانوا باللغة التباوية وهو ان ترى القاتل طليقا ولا تأخد بثأر القتيل... عرفت من خلاله سر عدم القبول اوالتسامح مع الاهانة فى مجتمع التبو..القتل العمد فى مجتمع التبو قضية لا تنتهى الا بالقتل ما لم يقبل اهل القتيل الديه بعد مفاوضات شاقة وصعبة وقد شرع مجتمع التبو دستورا لحل جميع مشاكلهم سميى (كتبا) حيث لا زالت بنوده سارية المفعول الى وقتنا الحاضر, هدا الدستور وغيره من القوانيين الاجتماعيةيحفظها شيوخ القبيلة عن ظهر قلب رغم غياب وسائل الثوتيق والتسجيل فى مجتمع التبو. نستعرض هنا للمثال لا الحصربند القتل والدية:
في حالة حصول جريمة قتل 1- لا يجوز اخد الثأر الا من القاتل نفسه فلا اعتداء على اخوته او ابناء عمومته ؛وعليهم عدم الدخول فى مشاحنات مع اهل القتيل من قبل احد اقاربه من الدرجات المختلفة ؛2- تجنب حظور المناسبات التى لها علاقة باهل القتيل من القريب او البعيد حتى عقد الصلح بين الطرفين 3- يعقد الصلح عند مجتمع التبو بعد اتخاد اجراءت تمهيدية مرهقة ؛يكون الهدف منها استرضاء وتقريب وجهات النظر وتصريف الاحقاد وكف الايدى المطالبة بالثأر وهدة الاجراءت بطيئة ومرهقة حتى يتم الاتفاق على دفع الدية حال قبولها
4-لايجوز فى عرف التبو الثمتيل بجثة القتيل بأى حال من الاحوال وفى حالة وقوع التمثيل بالجثة تعتبر القضية من اصعب القضايا و يصعب حلها.
لعلك اخى القارىء تتسأل ما علاقة "قصة جدك" بعنوان المقال "البيت التباوى للثقافة والثرات"؟
نحن فى مجتمع التبو نعانى من ازمة مركبة شقها الاول لها علاقة باللغة والكتابة وشقها الثانى غياب ثقافة جمع الثرات وتدوينها. الثرات الغير موثق عرضة للضياع والتشتت وعرضة للثأثر بعادات وتقاليد الحضارات الاخرى ..مشكلة ثرتنا انه ثرات شفهى ومنقول من السلف الى الخلف والثرات المنقول عرضة للنسيان وهى طبيعة انسانية لا حول لنا فيها ولا قوة لمنعها..جدى قد يكون نسى الكثير من التفاصيل دات العلاقة ولا يلام فى ذلك..
نحن بحاجة الى موسسات اهلية اجتماعية تدون و تحفظ الثرات من فن ولغة وعادات وتقاليد ونحن بحاجة الى مبادرات داتية من المثقفين ونشطاء المجتمع المدنى فى تأسيس هدا المشروع فى كل قرية ومدينة وما مسمى بيت التبو للثقافة والثرات الا مقترح يمكن ان يؤخد بعين الاعتبار.