قال تقرير تحليلي نشره المركز الإيطالي للدراسات الاستراتيجية الدولية «سيزي» إن جولة الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت في العاصمة طرابلس، وانتهت بهدنة «هشة»، تلخص الأسباب الحقيقية وراء تعطل عملية التوافق الوطني في ليبيا، وتبرز نقاط ضعف العملية السياسية، وتوقع أن تنتهي الأزمة عن ظهور أطراف جديدة بالعاصمة تم تهميشها من قبل، وتغير قوام النظام الأمني في طرابلس، الذي اعتمد حتى الآن على أربعة تشكيلات مسلحة رئيسة.
وقال معد التقرير، الباحث الإيطالي بشؤون الإرهاب، لورينزو مارينوني، إن «الصراع للسيطرة على العاصمة لا يقتصر على كونه نزاعًا محليًا، أو نزاعًا مرتبطًا بالتغيرات الكامنة في منطقة واحدة. بل متجذر في الصراع الليبي متعدد الطبقات». فمنذ العام 2014، وانقسام المؤسسات الليبية بين شرق وغرب ليبيا، استمر الصراع على الصعيدين العسكري والسياسي الداخلي، وشمل بشكل متزايد لاعبين إقليميين ودوليين.
وانتقد التقرير تعامل القوى الدولية مع الأزمة في ليبيا، وقال إن «اللاعبين الدوليين تبنوا نهجًا أحادي الجانب، في محاول لتفضيل فصيل واحد في ليبيا على حساب الفصائل الأخرى»، وقال إن غياب الاتساق في موقف المجتمع الدولي يظل أحد أبرز العراقيل أمام تحقيق الاستقرار في ليبيا.
وقال الباحث إن «الجهود الدبلوماسية في ليبيا دائمًا ما تكون مصحوبة بخطر إشعال الخلافات القائمة، في ظل غياب منصة سياسية مشتركة تستخدمها جميع الأطراف، وهذا قد يساهم في خلق حلقة جديدة من الفوضى». وضرب مثالًا بـ«حالة انعدام الثقة التي أظهرها لاعبون دوليون ومحليون عند الإعلان، عقب اجتماع باريس في مايو الماضي، عن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في وقت قصير»، وهي مبادرة تتبناها الدبلوماسية الفرنسية.
تهديد لـ«بقاء» حكومة الوفاق
وقال الباحث الإيطالي إن الاشتباكات في طرابلس هددت بشكل ملموس «فرص بقاء» حكومة الوفاق الوطني، وأبرزت مرة أخرى «الضعف الشديد الذي تعاني منه الحكومة برئاسة فائز السراج، وسلطت الضوء على حالة الغموض المستمرة المحيطة بعملية إعادة بناء المؤسسات الليبية».
وتابع مارينوني قائلًا: «ضعف فائز السراج تأكد بشكل أكثر وضوحًا بسبب العلاقة بين حكومة الوفاق والمجموعات المسلحة في طرابلس»، وذكر أن «السراج اضطر إلى إبرام اتفاق مع قادة المجموعات المسلحة في طرابلس، من أجل تأسيس حكومة الوفاق والسماح بدخولها العاصمة، وحفظ بعض مظاهر الأمن بالمدينة. وبالتالي حصلت تلك المجموعات على وضع مؤسسي وشرعي».
وأضاف أن «بعض المجموعات المسلحة تم إدماجها داخل هياكل مؤسسات مثل القوات الأمنية، تحت إدارة وزارتي الدفاع والداخلية»، في خطوة اعتبرها الكاتب «مثيرة للجدل»، محذرًا من عدم فاعليتها، وأنها لم تؤد إلى حل التسلسل القيادي للمجموعات المسلحة، بل منحتهم هامشًا كبيرًا من «الحرية والحكم الذاتي».
وتطرق التقرير إلى المجموعات المسلحة الأربع الأكبر في طرابلس، وقال إنها لديها هيكل مشترك للدفاع في حال تعرضت لهجمات من منافسين، وتدخل في تحالفات تكتيكية مع المجموعات الأصغر.
وحذر الباحث الإيطالي من تأثير المجموعات الأربع على مسار القرارات السياسية، وقال إنها «دائمًا ما تعمد إلى استخدام أساليب الترهيب والعنف، وهي قادرة على التأثير في القرارات السياسية، وتأمين سبل تمويل مالي ثابت، والتوسع على الأرض. وتحتكر تلك المجموعات، بحكم الأمر الواقع، القوة الشرعية».
تغيير تركيب «ميليشيات» طرابلس
وتحدث الباحث الإيطالي عن وجه آخر لاشتباكات طرابلس، وقال إن «الكيفية التي اندلعت بها الاشتباكات والطريقة التي انتهت بها أسفرت عن تغييرات مهمة في تركيب المجموعات المسلحة في العاصمة».
وأوضح أن «فائز السراج طلب تدخل مجموعات مصراتة والزنتان لفض الاشتباكات في طربلس. ووصلت مجموعات مصراتة إلى مطار معيتيقة، فيما وصلت مجموعات الزنتان إلى الجزء الغربي منها».
وتابع أن «وصول لاعبين جدد إلى العاصمة من شأنه أن يطلق عملية مراجعة لتركيب النظام الأمني في طرابلس، وهي عملية معقدة جدًا، لأن قادة المجموعات المسلحة لن توافق بسهولة على التخلي عن الامتيازات التي كسبتها دون مقابل مجزٍ».
وفي الوقت نفسه، قال الباحث إن «مجموعات مصراتة والزنتان استغلت بذكاء الاشتباكات الأخيرة لاستعادة نفوذها على بعض مراكز القوة السياسية والاقتصادية»، لافتًا إلى أن «كلتا المدينتين لم تحضر اجتماع باريس الأخير، وبالتالي تريدان الاضطلاع بدور القيادة من جديد».
توازن قوى جديد
وفي هذا الصدد، توقع التقرير الإيطالي تشكل توازن جديد للقوى في العاصمة، لكنه قال إن «توازن القوى القادم سيكون أقل استقرارًا من الناحية الهيكلية، مقارنة بما سبق، بسبب الطبيعة الهشة جدًا للتحالفات بداخله، والتي لاتزال تقوم على دوافع كل طرف لتحقيق مصلحته الخاصة».
وفي ظل هذا المشهد، قال الكاتب إنه لا يمكننا استبعاد ظهور أطراف تم تهميشها لفترة طويلة، أو إعادة تشكيل التحالفات بين المجموعات المسلحة. وهنا، ذكر الباحث أن «فائز السراج يملك أدوات محدودة لحل الخلافات القائمة وتوسيع نفوذ حكومته. فعدم قدرة السراج على توسيع نطاق الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة في إقليم برقة، أجبر حكومة الوفاق على اتباع استراتيجية قصيرة المدى، مقتصرة على استمالة قادة المجموعات المسلحة الرئيسة في المدن الكبرى».
ورغم نجاح تلك الاستراتيجية في السماح بدخول حكومة الوفاق إلى طرابلس، قال التقرير إنها «ستخلق في النهاية حلقة مفرغة من الآثار السلبية. فتوزيع المزايا والتعيينات الحكومية شجع المجموعات المسلحة على تحويل مؤسسات الدولة إلى مجرد قناة للوصول إلى الموارد المالية، وهذا سمح لهم بالإبقاء على هيكل الحكم الذاتي الخاص بهم، والإبقاء على موقف قوة أمام حكومة الوفاق».
ولهذا تشكك الكاتب في إمكانية إرساء الاستقرار في العاصمة، أو قدرة حكومة الوفاق على تطبيق إصلاحات اقتصادية، وقال إن «ذلك يتوقف على نوعية الحوار بين طرابلس وطبرق، وأيضًا على الكيفية التي يتم بها التعامل مع الانقسام المؤسسي الذي حدث في العام 2014».
وبناء على ذلك، قال الباحث إنه من الصعب التكهن بحدوث تطور كبير في الوضع بطرابلس، إذا لم تتزامن الجهود المبذولة مع ضمانات سياسية مناسبة بالمضي في عملية التوافق الوطني، وإجراء إصلاح موصع في النظام الاقتصادي. وقال: «الإطار الأمني الهش في طرابلس بمثابة (عنق الزجاجة) والعقبة التي تقوض جهود تحقيق التوافق السياسي والإصلاح الاقتصادي في ليبيا».
المبادرة الفرنسية «متسرعة»
وبالنظر إلى الوضع القائم في طرابلس، قال الباحث إنه «أصبح من الواضح أن المبادرة الفرنسية المتسرعة، الداعية لإجراء انتخابات وطنية نهاية العام الجاري، ساهمت في زعزعة استقرار الوضع في طرابلس».
وأرجع ذلك إلى أن اجتماع باريس، المنعقد في 29 مايو الماضي، اقتصر على مجموعة صغيرة من الأطراف الليبية، هم فائز السراج وخليفة حفتر وعقيلة صالح وخالد المشري، دون دعوة الأطراف الحقيقية المؤثرة على الأرض.
وقال إن إجراء الانتخابات لن يساهم في حل الصراع وإرساء الاستقرار، لكنه يعني «ببساطة ظهور مجموعة جديدة من اللاعبين الذين يتمتعون بالشرعية الدولية، وهي النقطة التي تسعى جميع الأطراف للفوز بها، وهي السبب الرئيس وراء استمرار الصراع في ليبيا».
ولهذا حذر الباحث الإيطالي من أن التسرع نحو إجراء انتخابات في ليبيا نهاية العام الجاري يعني تكرار سيناريو مشابه لما حدث عقب انتخابات العام 2014، عندما رفض بعض الأطراف الاعتراف بنتائج الانتخابات، خاصة في ظل الغموض المحيط ببعض الجوانب القانونية للمسار المؤدي للانتخابات.
وقال: «هذا المأزق يقلل الثقة المتبادلة بين طرابلس وطبرق، وينذر بتفاقم الخلافات»، وخصوصًا الخلافات المستمرة بشأن إدارة المؤسسات الاقتصادية الحيوية، مثل المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي وهيئة الاستثمار. وحتى الآن، تقتصر تلك الخلافات على الدعوة لاستبدال قيادات مؤسسات مثل المصرف المركزي، والدعوات لمزيد من الشفافية فيما يخص التعاملات المالية.
غياب نهج دولي مشترك
وانتقل الباحث للحديث عن موقف المجتمع الدولي من مجريات الأزمة في ليبيا، وقال إن غياب منطق مشترك في تعامل المجتمع الدولي مع الأزمة يقوض الدعم الدولي الحيوي لعملية التوافق السياسي الذي ترعاها الأمم المتحدة.
لكنه قال إن إيطاليا يمكنها المساهمة في الخفض من حدة التوترات، ويمكنها فتح قنوات حوار مع مجموعة واسعة من الأطراف الليبية المحلية، وذكر أن «روما حافظت على قنوات اتصال سرية مع خليفة حفتر والأطراف في برقة، رغم الدعم العلني لحكومة الوفاق الوطني».
ويمكن أن تتوسط روما أيضًا وتدعم فكرة تغيير بعض أعضاء حكومة الوفاق الوطني، وهو مطلب تقدمت به بعض الأطراف المحلية في ليبيا، ولمح إليه المبعوث الأممي غسان سلامة.
وقال الباحث أيضًا إن «روما أقامت علاقات مع مصراتة، ويمكن استخدام ذلك، إذا التزمت مصراتة موقفًا محايدًا من الصراع بين طرابلس وطبرق. وفي العام 2017، فتحت مصراتة حوارًا مفتوحًا مع قيادات عسكرية من إقليم برقة، بوساطة مصرية، بهدف تمهيد الطريق أمام توحيد القوات المسلحة الليبية. وفي ضوء تلك الاتصالات، يمكن لروما توسيع نطاق جهودها في عملية السلام»