===================================
توقفت كثيرًا في سورة يس، فوجدت فيها أمرًا ربما لا نلتفت إليه كثيرًا . ترتبط سورة يس بالموت غالبًا ما تجد أهل المتوفي يعكفون على قراءة سورة يس يوم الوفاة لعل الله ينفع بها الميت ، والأوفياء منهم يواظبون عليها عدة أيام بعد وفاة عزيز عليهم .
لكني ألتفت إلى أمر مهم في سورة يس قال الله تعالى في القرآن الكريم فيها ( لينذر من كان حيّاً ) ولم يقل لينفع من كان ميتًا ، لست أناقش هاهنا موضوع إنتفاع الميت بقراءة الحي للقرآن ، ولكني ألتفت إلى أننا أغفلنا الحكمة الأعظم من القرآن ( لينذر من كان حيًا ) ، ثم جعلت أتساءل كم من الأحياء الذين قرؤوا سورة يس إنتفع بها ؟ ، كم منهم تعلم منها ولو معنى واحد ؟ كم منهم أثرت في حياته وغيرت منها شيئًا ؟ هؤلاء الألوف الذين يقرؤوها كل يوم ماذا صنعوا بها ياترى؟
ثم سألتني ماذا صنعت أنت بها ؟ ووقفت قليلاً أتدبر السورة ، حقيقة لفت إنتباهي فيها آيات كثيرة ، لكنّ أبرز ما لفت إنتباهي هي قصة القرية التي جاءها المرسلون .
لعل أكثرنا يعرفها ، لكن الذي إستوقفني فيها شئ أدهشني في القصة أن رجلاً من القرية إقتنع بما يدعو إليه المرسلون ، وقام ملهوفًا على قومه ( من أقصى المدينة ) ، جاء يحاور قومه ويدعوهم إلى ما إعتقد أنه سبيل الفوز والسعادة ، جاء يحمل الخير لهم ، جاء فزعاً إلى نضج أفكارهم، جاء بخطاب يمس العاطفة فيستميلها ، ويخاطب العقل فيقنعه ،
وكانت مكافأته من قومه أن قتلوه ، ليست قتلة عادية ، بل بطريقة حقيرة رديئة لا يزاولها إلا حيوان بريٌ لم يعرف شكلاً إلى التهذيب والتربية . تروي التفاسير أن قومه قاموا إليه فركلوه ورفسوه حتى خرج قَصُّهُ ( عظمة القص تصل ما بين الأضلاع ) من ظهره
ثم يدهشك ما سيحدث بعد ذلك .
يخبرنا القرآن أن هذا الرجل قيل له ( إدخل الجنة ) لو كنت مكانه لفكرت على الفور " ياربي والقتلة ألن تنتقم لي منهم ؟ ألن تعذبهم ؟ يارب سلط عليهم حميراً ترفسهم حتى يموتوا " لكن الذي أدهشني هو أمنية الرجل
( قال ياليت قومي يعلمون - بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين )
.
حقيقة توقفت كثيرًا أمام هذه النفسية العظيمة ، نفس رحبة واسعة جدًا ، حتى أنها لم تحمل ضغينة على القتلة ، بل على العكس كانت أول أمنية له فور أن بشر بالجنة لو أن هذا المجتمع القاسي الذي قابل الجميل بالقتل ، لو أنهم يعلمون المنقلب ، لو أنهم يطلعون على الخير الذي أعده الله للصالحين ( ياليت قومي يعلمون ) .
أدهشني حرصه على الخير لقومه مع ما واجه منهم .
أدهشني تمسكه بالرغبة في إصلاحهم مع ما تبين من عنادهم .
أدهشني همته في دعوتهم للخير مع توقف مطالبته بالعمل .
أدهشني حبه الخير للآخرين ، حتى من آذوه.
أدهشني أن تكون أول أمنية له لو أنهم يعلمون
وبعد أيامٍ ، وقفت من سيرة رسول الله صل الله عليه وسلم على موقف مشابه ، رحلة الطائف ، ويأتيه ملك الجبال " لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين " فيجيب ( اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون ) .
وصلت إلى خلاصة التالية :
الكبار وحدهم هم الذين يتحملون سفاهة الناس من أجل هدف أسمى هو إصلاحهم .
الكبار وحدهم هم الذين لا يعادون أحداً إنتقاماً لأشخاصهم .
الكبار وحدهم هم الذين تكون أمنياتهم بناء.
الكبار وحدهم هم من يتقبلون دفع ضريبة حمل الإصلاح للناس .
الكبار وحدهم هم الذين لا يعرف عامة المجتمع أقدارهم .
اللهم أجعلنا منهم .
منقول عن الدكتور راتب النابلسى