أكذوبة العقوبات الأمريكية الأوروبية على روسيا: نخب أوروبا بالمرصاد من أجل إزالة الغشاوة الجيوسياسية.


يضج طيف واسع من النخب الأوروبية في وسائل الإعلام متحدّيا حكومات القارة العجوز أن تعلّل العقوبات التي تسابقت في فرضها ضد بوتين واعتبرتها فتحاً مبيناً.. والحقيقة أن تفسيرهم للأمر لا يخلو من صواب إن لم يكن الصواب كلّه.. هذا لأنهم يؤكدون بوضوح أن الأمريكيين قد تلاعبوا بهم وعاقبوهم كما عاقبوا الروس بل أشدّ. فالأمريكيون يعاقبون بوتين لأنه يؤسّس دولا كما يشاء، ويلغي حدودا ويحرّك الخارطة كما يريد.. لكن ما ذنب الأوروبيين أعضاء الناتو كي يتقاسموا العقوبات معه؟

يقول هؤلاء النخب أن المعركة الرئيسية ليست بين بوتين وأوروبا الناتو، بل هي بين روسيا والولايات المتحدة حول تقسيم أوروبا، باعتبار أن هذا التقسيم المنبثق عن الحرب العالمية الثانية قد جعل السوفييت أسياداً على شطر أوروبا، والأمريكيين أسياداً على الشطر الآخر.. ولأن الحرب الباردة قد انتهت بتشظي الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد حلف وارسو، وتحوّل روسيا إلى دولة ضعيفة اقتصاديا ومهمّشة سياسيا أثناء التسعينيات، فقد انهار المعسكر الشيوعي واصطفت معظم الدول الأعضاء فيه أمام أبواب الشطر الغربي تتسوّل الإنقاذ والمعونات، طالبة عضوية الاتحاد الأوروبي، راضية بالانضمام إلى حلف الناتو، عدوّ الأمس.

فالمستفيد الأول من هذا الأمر كان الولايات المتحدة التي لم تصدّق أنها قد تخلصت من خصم عسكري وسياسي وأيديولوجي بتلك السرعة، وأن فكرة العالم ثنائي القطبية قد انهارت بلا مواجهة وبلا تضحيات!! وهذا يفسر انزعاجها من سلوك بوتين الذي لا يُخفي نواياه في ترجمة التعافي الاقتصادي والتقدم العسكري لبلاده إلى تقاسم جديد للنفوذ في العالم وخصوصا داخل أوروبا، واستعادة أمجاد روسيا القيصرية.

إن الدول الأوروبية الغربية بالخصوص لا مصلحة حقيقية لها في معاقبة روسيا ولا في محاصرتها، فهذا يجعل ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا وغيرها كمن يصوّب مسدّسه نحو رجليه، وقد تداعت مفاعيل قرار ألمانيا إلغاء خط غاز تورستريم 2 بشكل كارثي على أوروبا بعد أن قفزت أسعار الغاز بـ20% في غضون ساعات قليلة!! هذا بالإضافة إلى إحباط آلاف المعاملات والاستثمارات لرجال الأعمال ورؤوس الأموال الأوروبية.. وفي المقابل، لم يخسر الأمريكيون شيئا.. فقد جعلوا العالم يصدّق أكذوبة العقوبات الصارمة.. وهي عقوبات يبدو أنها موجهة نحو أوروبا بالأساس وليس ضدّ بوتين. فالمواطن الأوروبي والاقتصادات الأوروبية سوف تتكبد الخسائر واضطراب إمدادات الغاز والأضرار التي ستصيب صادرات غرب أوروبا سوف تزيد من حالة الركود خلال ما بعد الكورونا..

إن النخب الأوروبية تفهم جيدا حقيقة ما يجري. وهي بصدد جلد حكوماتها على تهورها واندفاعها.. وتؤكد على أن ردّ الفعل الطبيعي على سياسات بوتين ليس الصمت على ما يفعل، لكنه ليس الحرب.. بوتين "اعتاد تأسيس الدول" دون أن يتعرض إلى عقاب حقيقي.. والسبب هو عدم القدرة على معاقبته كما يجب.. ويعتبرون أن المنظومة الأمنية والسياسية التي تحكم العلاقات الدولية سوف تحول أوروبا إلى ساحة حرب طاحنة وصراع مصالح بين دبّ روسي هائج انتفض بعد سُبات وبين "راعي بقر" أمريكي يلوّح له بطُعم أوروبي كي يصطاده!! فالقنابل والصواريخ النووية الروسية أو الأمريكية ستصيب أمن أوروبا ورخاءها ومصالحها.

ومن هنا تأتي النخب الأوروبية إلى ضرورة فتح نقاش سياسي، وعقد مؤتمر يجمع الأوروبيين والأمريكيين والروس والصينيين كي يتقاسموا المجالات الحيوية ويتفقوا عليها قبل أن يضطروا إلى الاحتراب من أجلها.. ويعتبرون أن السكوت عن هذه القضية لن يؤدي إلى احتلال أوكرانيا فحسب، بل ربما إلى اختفاء بلدان كثيرة متاخمة لروسيا من على الخارطة. يحدث هذا في ظل "غشاوة جيوسياسية" تعمّ باقي العالم، وسوء تقدير كبير، وسوء اصطفاف طفولي.

محمد الامين ايوان ليبيا. وللحديث بقية.