ليبيا وإثيوبيا .. وآلاف القتلى
منقول...
في أكتوبر – تشرين الأول عام 1935 ألقى الدوتشي إحدى جرادله من شرفة ( بياتزا فينسيا ) واعلن للعالم أن اثيوبيا تواجه في تلك اللحظة هجوما إيطاليا ساحقا .
والواقع ان الدوتشي كان قد قرر ان يغسل عاره بدماء الليبيين , وقد نقل إلى اثيوبيا تسعة فيالق ليبية وزودهم كالعادة بقافلة من الحمير وبغل واحد اسمه غراتسياني
ثم طلب من البابا أن يقرأ الصلاة على ارواحهم جميعا , وبدأ الليبيون الهجوم بلا صلاة , كانوا يقاتلون بحماس نهائي اثار دهشة العالم، وكانوا يبدون من الكراهية للحبشيين أكبر مما أبدى (غراتسياني) نقسه، مرتكبين سلسلة من الفظائع الرهيبة على طول القرى والمدن منطلقين بهياج لقتل أي شيء يتحرك في طريقهم مثل وحوش جائعة منذ ألف عام .. وكان العالم يتابع أنباء المذبحة بدهشة بالغة , فلم يكن ثمة من يعرف لماذا يحارب الليبيون بكل هذا الإخلاص !
والواقع ان حل اللغز كان لعبة أخرى , فالمعروف أن إيطاليا أتمت عزو ليبيا بوحدات صومالية شحنت في سفن الدوتشي من موانئ اريتيريا والصومال الايطالي، وأفرغت على طول السواحل الليبية كي تقوم بأكبر إبادة جماعية شهدها العالم حتى ذلك العصر
ورغم أن الصوماليين فشلوا في إنجاز هذه المهمة , فقد أدوا دورا آخر اكثر فظاعة فيما يخص مداهمة القرى الليبية وتدميرها عبر سلسلة من العمليات المفاجئة من الغرب إلى الحدود الشرقية في مسيرة واحدة .
وقد شهد الليبيون إذ ذاك أياما عصيبة في مواجهة الوحدات السوداء المدربة الجيدة السلاح، وبدا من الواضح أن عملية القهر العسكري التي أنجزت في خيام الرعاة والمدن لن تنتهي عند حد ، فالمرتزقة لا يعرفون حدودا نهائية لأية معركة إلا بعد أن يروا بأنفسهم أنهم اصبحوا سادة الموقف مباشرة .
وهكذا بدأت فترة (الإذلال) التي نفذها الصوماليون لتأكيد انتصارهم العسكري وشهد الليبيون مرة أخرى سلسلة مريعة من عمليات الاغتصاب والنهب والضرب بالسياط ومعسكرات التعذيب وحرق الأحياء وقتل الأطفال والعجائز، ووصلت المأساة قمتها خلال أعوام المجاعة العامة، واستعرض الصوماليون نفوذهم قي حلقة اكثر ألما لإذلال الشعب بأسره مقابل بضعة أرغفة من الخبز المتعفن .
هنا بدأت آلاف الحكايات المريعة تنقل إلى العالم الخارجي عن المأساة التي تعيشها ليبيا في مواجهة وحدات موسوليني البربرية. ولكن العالم كان مشغولا بمشاكله الخاصة ولم يكن ثمة من يهتم بان ينقرض احد الشعوب المتأخرة ما دام ذلك يستطيع أن ينقذ أوروبا من موسوليني.
وكاد الليبيون أن ينقرضوا ثم أحنوا رؤوسهم في النهاية وقرروا أن يغيروا خطتهم تجاه إيطاليا ، ولكنهم لم ينسوا قط ما فعله ذلك (الجندي الأسود) الذي عرفوه باسم (مصوعي) وعرفوا أنه جاء من أفريقيا.. من مكان ما بين (مصاغة) في السودان وبين مدغشقر .
هذه النقطة بالذات هي التي سوف يحسن (غراتسياني) استغلالها عندما يجهز وحداته الليبية لغزو أثيوبيا، فما دام أحد لا يعرف من اين جاء (المصوعي) على وجه الضبط فلماذا لا تستغل الدعاية الإيطالية هذه الفرصة وتقول لليبيين إنه جاه من (الحبشة) وأن الدوتشي سيحملهم إلى هناك لأخذ ثأرهم المقدس والانتقام لأيام الذل تحث نعلي العبد الأسود .
كانت كذبة كريهة. وكان (قراتسياني) يعرف أنه يكذب وأن اثيوبيا لم ترسل جنديا واحدا إلى ليبيا ولم تشرك في غزوها على اي نحو، ولكنه كان يعرف ايضا أنه يتعامل مع شعب امي يمكن إقناعه بأي شيء
وفي الشهور التالية واجهت اثيوبيا مذبحة عامة , وأدى الليبيون مهمتهم بإخلاص يفوق إخلاص الايطاليين انفسهم , وقتلوا كل شيء وجدوه في طريقهم وأحرقوا الأطفال واغتصبوا وأشعلوا النار في القرى والكنائس وخوضوا في الدماء حتى ركبهم , وكان الليبيون يقاتلون جنبا إلى جنب مع الوحدات الصومالية , مع (المصوعي) الذي كان من المفروض أنه يقف في الجبهة الأخرى.
وفي إبريل نيسان سنة 1936 قام الليبيون بهجوم نهائي من الجنوب وهزموا الجيش الاثيوبي الذي كان يقوده الامبراطور بنفسه عبر بحيرة (عشانجي) ثم شقوا طريقهم في اتجاه الشمال حتى التقوا بفيالق القائد العام (بياترو بادو) وسقطت (اديس أبابا) بعد احد عشر يوما،
وخطب (غراتسياني) في ذلك اليوم خطبة مريعة اعلم فيها الليبيين ان عملية اخذ الثار قد تمت بنجاح وأن عليهم يذهبوا إلى بيوتهم
أما الامبراطور هيلاسبلاسي فقد تقدم مطرقا ليلقي أمام عصبة الأمم في جنيف احدى خطب هذا العصر الشهيرة فيما كان الصحفيون الايطاليون يملأون القاعة بالصياح لاخماد صوته العظيم , وقال الامبراطور أن بلاده تواجه حرب إبادة , وأن الإيطاليين يتعمدون الكذب على الأمم الإفريقية لجرها إلى المعركة غير المتكافئة , وأن موسوليني يستعمل الغازات السامة المحرمة دوليا , ثم رفع الإمبراطور رأسه وقال للعالم : ( إن اثيوبيا تواجه بربرية أوربية ) , وفي ذلك اليوم بالذات كان (فيتوريو) ابن موسوليني يحدث مجموعة من الصحفيين عن ( الرياضة المدهشة ) التي كان يمارسها في اثيوبيا ملقيا قنابله من طائرته الخاصة على كتائب ( الزنوج) , وكانت كلمات ( فيتوريو) بالضبط :
( مدهش .. مثل حزمة من الورد الأحمر كانت دماء الزنوج تنبثق إلى أعلى بعد انفجار القنبلة )
ثم دارت الأيام .. وانفجرت كثير من القنابل ورأت ايطاليا حقيقة الحرب رأي العين عندما اكتسحها مونتغمري مثل إعصار خرافي لا يمكن إيقافه ثم سقط موسوليني وبصقت العجائز فوق وجهه وحشون بطنه بالتبن .. وعاد الامبراطور الى بلاده .
أما الليبيون فقد مات كثير منهم دون أن يعرفوا أن الرجال الذين ذهبوا لقتالهم في أثيوبيا لا شأن لهم ( بالمصوعي الكريه ) , ولعله من رحمة الله أن يدرك عباده بالموت قبل أن يكتشفوا كل أخطائهم .
ولكن الجهل يبقى دائما مهزلة .