كما_يصفه_أشرس_خصومه

! مِمَّا يُروى عن الوليد بن المغيرة وهو من أثرى الأثرياء وأفصح الفصحاء وسيد من سادات قريش أنه اجتمع إليه نفر منهم، وكان ذَا سن فيهم، وقد حضر الموسم.. فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحدا، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول كاهن؟! قال: لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول مجنون! قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟!! قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة، وماأنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل!! ثم أضاف: اتركوني أفكر واقدّر الأمر  وأرى التهمة المناسبة… ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ  فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ  ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ  ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ ثم قال أبن المغيرة: إن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بـ «قول» هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره. حتى هذه التهمة ليست تهمة! أرى أنها مديح إضافي من أبن المغيرة لمحمد ﷺ وكلامه/ قرآنه.. ما الذي يمتلكه محمد ﷺ لـ «يسحر» الجموع، ويجعل الناس يتبعونه؟..  يفرِّق المرء عن أبيه، والأخ عن أخيه، والزوج عن زوجته، وأبن العشيرة عن عشيرته وجماعته... أي «سحر» هذا؟! من هو محمد ﷺ قبل هذا الأمر.. منذ طفولته وصباه، وشبابه الأول، إلى أن بلغ الأربعين من عمره عند بعثته؟ كانوا يعرفونه بصدقه، ونزاهته، وأمانته، ورجاحة عقله.. وكانوا يصفونه بالصادق الأمين.  ما الذي كان يمتلكه محمد ﷺ ؟! هل كان يمتلك السلطة والزعامة التي تجعل اتباعه يطمعون بمكاسبها؟! هل كان يمتلك الثروة التي تغري الفقراء والعبيد؟ هل كان يمتلك القوة العسكرية التي تجعلهم يهابونه ويتبعونه ويخضعون لأفكاره؟! كان معه «كلمات» رأى أشعر الشعراء وأبلغ الخطباء وأفصح فصحاء العرب أنها لا تشبه بقية الكلمات.. كان معه قرآناً كريماً حميداً مجيداً حكيماً عزيزاً.. كان معه الكتاب الذي لا ريب فيه.   أما عتبة بن ربيعة فقد جاء إلى النبي ليفاوضه ويغريه بعدة عروض مقابل ترك هذا الأمر/ الدعوة إلى الإسلام: " يا ابن أخي.. إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تريد به شرفًا سَوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا ". فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عروضه المغرية أن قرأ عليه أوائل سورة فصلت، فرجع عتبة إلى قريش بوجه غير الوجه الذي ذهب به، وقال لهم:   إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش.. أطيعوني واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فو الله ليكونن لـ «قوله» الذي سمعتُ نبأ!   ما قاله عتبة - ومن قبله الوليد - هو اعتراف من أشد الناس عداوة لمحمد ﷺ وللدين الذي يدعو له.. عاشا وماتا وهما يحاربانه، ويشككان به وبدعوته، ولكن.. يظل «قول» محمد ﷺ و «الكلمات» التي يحملها لها نورها وتأثيرها في خصومه قبل محبيه.. أما الذين آمنوا بها وبه ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾... ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾ هذا تأثير هذه الكلمات على البشر.. أما الحجر: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾