فزان سحر الجنوب الليبي



تنتظر فزان عودة الأمن والاستقرار إلى ليبيا بصورة نهائية، وإعادة تكريس سيادة الدولة، ليعيد العالم اكتشافها، فهي منطقة مدهشة، بما فيها من عبق التاريخ، وروعة الآثار، وسحر الطبيعة، وتعدد الثروات، وتنوع الثقافات، وزادها موقعها كجسر للتواصل بين شمال أفريقيا ووسطها، وبين البحر والصحراء، أهمية خاصة، لا سيما في العالم القديم، عندما كانت ملتقى للحضارات.



فقد عرفها الفراعنة والفينيقيون والإغريق والرومان، وأسس الجرمنت فيها دولة قوية في الفترة الممتدة بين 900 قبل الميلاد و500 بعد الميلاد، وفي القرن الخامس قبل الميلاد، كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوت، أن الشعوب الكائنة في فزان، استخدمت عربات تجرها أربعة خيول لملاحقة الغزاة. 

زائر فزان، يجد نفسه أمام طبيعة تحيله إلى كوكب مختلف، فالصحراء الممتدة برمال السليكا وجبال الجرانيت والصخور العملاقة، والأنهار الجافة والأودية والبحيرات النادرة، تثير في الزائر الكثير من الفضول للعودة إلى التاريخ، والتشبع بثراء الطبيعة، مستظلاً بتلك الواحات الوارفة، التي تنتج أجود أنوع التمور، أما تحت الأرض، فثروات من الغاز والنفط والماء العذب، والذهب واليورانيوم والحديد وغيرها.

وورد ذكر فزان في كتاب «التاريخ الطبيعي»، لمؤلفه الروماني بلينيوس الأكبر، والذي دوّنه بين عامي 77 - 79 للميلاد، حيث تحدث عن الأحجار الثمينة التي كانت ترد من فزان، وتسمى بالحجر القرطاجنّي، وهو ما يعرف اليوم بالفيروز الأخضر.

وقد وجدت نماذج منه في مقابر الجرمنت، قبل أن يتم التوصل إلى المقاطع التي يستخرج منها، فهي توجد بمنطقة إيغي على بعد 300 كلم إلى الشرق من منطقة «واو الناموس»، المعروفة بجبل يحمل اسمها، وهو جبل بركاني يبلغ ارتفاعه 565 متراً، به عدد كبير من البحيرات متعددة الألوان، المنتشرة على سفحه مع النباتات.



وتشير معظم الدراسات العلمية، إلى أن تسميته بـ «واو الناموس»، أتت بسبب أفواج البعوض التي كانت تنتشر في المكان، يعد هذا المكان محمية طبيعية لبعض الكائنات النادرة.

حيث اكتشف العلماء 16 نوعاً جديداً من أنواع البعوض في هذه المنطقة، ويرجع بعض علماء الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان، استخدام الحديد في حضارة النوق التي ظهرت في منطقة غرب أفريقيا، أي وسط نيجيريا حوالي عام 1000 ق.م. واختفت بشكل غامض حوالي عام 500 م، يعود إلى بودرة الحديد الموجودة في المنطقة الجنوبية الغربية من موقع واو الناموس.

تاريخ ثري

في أوائل القرن الثالث عشر ميلادي، قال ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان «فَزانُ: بفتح أوله وتشديد ثانيه وآخره نون، ولاية واسعة بين الفيوم وطرابلس الغرب، وهي في الإقليم الأول، وعرضه إحدى وعشرون درجة، قيل:

سمّيت بفَزان بن حام بن نوح، بها نخل كثير وتمر كثير، ومدينتها زَويلة السُودان، والغالب على ألوان أهلها السواد...»، في إشارة إلى الجذور الأفريقية لأغلب السكان، الذين كانوا يقطنون بالمنطقة آنذاك.

وقال ابن خلدون (1332 - 1406م)، في كتابه العبر «ثم فزان وودان قبلة طرابلس، قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض أفريقية، لما أغزاها عمر بن الخطاب، عمرو بن العاص، ثم الواحات قبلة برقة، ذكرها المسعودي في كتابة، وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب.

فقفار ورمال لا تنبت زرعاً ولا مرعى، إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه، ومن ورائه مجالات المتلثمين، كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان».



وخلال القرنين 13 و14 م، كانت فزان جزءاً من إمبراطورية كانم، التي كانت تمتد على مساحة تشمل وفق التقسيم الجغرافي الحالي، دول تشاد ونيجيريا وشرق النيجر وشمال شرق نيجيريا وشمال الكاميرون، وفي عام 1550، تشكلت دولة أولاد إمحمّد، نسبة إلى إلى مؤسسها الشيخ إمحمد الفاسي، وهو ينتمي إلى الأسرة الإدريسية بالمغرب الأقصى.

واتخذت من مدينة مرزق عاصمة لها، واستمر حكمها حتى عام 1813، عندما سيطر عليها العثمانيون القادمون من الشمال بعد حروب عدة، وفي عام 1911، احتلت فزان من قبل إيطاليا، إلا أن سيطرتها على المنطقة لم تكن مستقرة حتى عام 1923، حين صعدت الفاشية إلى الحكم في إيطاليا، وووجه الإيطاليون بالمقاومة في محاولاتهم الأولى أثناء الغزو من قبل القبائل المقاومة، والقوات التابعة للحركة السنوسية الصوفية.

وخلال الحرب العالمية الثانية، قامت قوات فرنسا الحرة، بطرد القوات الإيطالية، واحتلال مرزق في فزان في 16 يناير 1943، وظلت المنطقة تحت السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951، عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءاً من المملكة الليبية المتحدة، بعد استفتاء أجراه أبناء فزان.

وعلى إثره، أعلن الملك إدريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة، كنظام فيدرالي في 24 ديسمبر 1951، ومنذ ذلك التاريخ، تولت أسرة سيف النصر حكم الإقليم، فتحول مركز العاصمة من مرزق إلى سبها، واستمر الوضع إلى عام 1963، عندما تم إلغاء النظام الفيدرالي.



تنوع ثقافي

تبلغ مساحة إقليم فزان الحالي 551,170 كم مربع، ولا يتجاوز عدد السكان 500 ألف نسمة، وأغلبهم من العرب من أبناء القبائل، كأولاد سليمان والحساونة والزوية والقذاذفة والمقارحة.

إضافة إلى عرقيتي التبو والطوارق، اللتين تتميزان بإمداداتهما في دول الجوار الأفريقي، فالتبو هم جزء من إثنية تنتشر كذلك في تشاد والنيجر والسودان، والطوارق، هم أمازيغ الصحراء، ممن يستوطنون الصحراء الكبرى، في جنوبي الجزائر، وأزواد شمالي مالي، وشمالي النيجر، وشمالي بوركينا فاسو.

وأكبر مدن فزان حالياً، هي سبها، التي يقطنها 200,000 نسمة، أما ما تبقى من السكان (نحو 300,000 نسمة)، فيعيشون في البلدات الموجودة في الواحات.

ضمن محافظات وادي الشاطئ، وادي الحياة، الجفرة، مرزق وغات، وتمثل مدن منطقة الجفرة (ودّان، وسوكنة وهون)، المدخل الشمالي لفزان، وتربط الإقليم بسرت ومصراتة في شمال غربي ليبيا، وراس لانوف والبريقة في الشمال الشرقي، بينما تقع براك الشاطئ والوادي المتصل بها (وادي الشاطئ)، على مفرق طرق مهم آخر، يربط فزان بالجبال الواقعة إلى الجنوب من طرابلس.

إهرامات

وفي منطقة الحطية، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن مدينة جرمة التاريخية، يوجد عشرون هرماً صغيراً، بنيت قبل 3000 عام بالطين والملح والقليل من الحجر، ولا تزال إلى اليوم على حالها، وقد تم اكتشافها في الخمسينيات من القرن الماضي، مردومة في الرمال، وقامت مصلحة الآثار بترميمها في السبعينيات، وتحدث عنها عالم الآثار الإنجليزي ديفيد ماتينغلي، فقال:

«لم يكن الجرمنتيون من رواد الحضارة في الصحراء الليبية فحسب، بل كانوا القاعدة الرئيسة التي انطلقت منها الأفكار والمعارف الجديدة، لتطويع التقنيات المنتشرة في الصحراء، إرساء لقواعد المجتمعات الصحراوية، وشبكات التبادل التجاري، كما أن الحفريات في المواقع الحضرية والقرى والعديد من المقابر المتراصة للغاية، تكشف عن أسلوب الحياة القديمة للجرمنت.



وعن الزراعة في الواحات، أي على النقيض من الافتراضات السابقة من أنهم رُحّل. ومن جانب آخر، أوضحت عمليات ترميم القطع الأثرية، أنها حضارة مستقلة تماماً عن الإمبراطورية الرومانية، على الرغم من تمتعها بعلاقات تبادل تجاري مربح مع الرومان».

مشيراً إلى أن «مقابر الجرمنت تكشف عن طقوس للدفن متنوعة للغاية، بوجود ما يزيد على 200 ألف موقع للدفن في وادي الحياة وحدها، وكثير من الأضرحة تضمنت الفنون الرومانية والإغريقية للمقابر الهرمية، وهذا يرجح اتصال الجرمنتيين بالشعوب الأخرى في الشرق والجنوب الشرقي، أيضاً تم العثور على جثتين محنطتين عمرهما 2000 عام».

وأما المؤرخ اليوناني هيرودوت، صاحب مقولة «من ليبيا يأتي الجديد»، فقد ذكر في «الكتاب الليبي»، خلال القرن السادس قبل الميلاد، أن تلك الإهرامات «بنيت كمقابر لدفن الموتى.

وكان شعب الجرمنت يدفنون موتاهم وهم مُمدّدين على ظهورهم، باستثناء النسامونيس، أو سكان سرت، الذين اعتادوا دفن موتاهم بوضعية الجلوس، فحسب معتقداتهم، يجب أن يكون الإنسان جالساً لحظة خروج الروح منه، وطريقة الدفن هذه كانت شائعة لدى سكان المنطقة في تلك العصور القديمة».

وتبدو الإهرامات الليبية، شبيهة بنظيراتها الموجودة في السودان وجنوب الجزائر والمغرب.

مومياوات

وفي عام 1958، تم العثور في جبال أكاكوس، على مومياء لطفل صغير أسمر البشرة، يقدر عمره بعامين ونصف العام، لُفت جثته بعناية في جلد ظبي، وقد اتخذت وضع الجنين، ونزعت أحشاؤها.

وغُلفت بأعشاب برية، بغرض حمايتها من التعفن والتحلل، ويبلغ عمرها نحو 5600 عام، وهو ما يعني أن تحنيطها سبق بنحو 1500 عام، زمن التحنيط المسجل في الحضارة المصرية القديمة، الذي ترجع بداياته إلى (2250 – 2750) قبل الميلاد، ما دفع العلماء إلى إعادة النظر في الاعتقاد الذي كان سائداً، بأن التحنيط في القارة الأفريقية بدأ في مصر، والدفع بفرضية جديدة، ترجح أن يكون مصدره إحدى الحضارات السابقة المجهولة، التي نشأت في المنطقة المعروفة الآن بليبيا، على مدى 20000 عام.

وأطلق على المومياء اسم «وان موهى جاج»، أو المومياء السوداء، وقد عثرت عليها بعثة آثار إيطالية، برئاسة فابريزيو موري عام 1958، أثناء التنقيب في كهف صخري صغير، يقع في وادي «تشوينت» في سلسلة جبال «أكاكوس»، جنوب مدينة «غات» الليبية القريبة من الحدود الجزائرية، وهي محفوظة حالياً بمتحف السرايا الحمراء بالعاصمة طرابلس.

وفي 2008، تم اكتشاف مومياء طولها 2.25 متر، من قبل بعثة آثار ليبية بريطانية مشتركة، بقيادة العالم الإنجليزي ديفيد ما تنجلي، عندما كانت البعثة تقوم بأعمال البحث والتنقيب على سفوح جبل زنككرا في أوباري عاصمة محافظة وادي الحياة، وتبين أن عمرها يبلغ سبعة آلاف عام، وهي موضوعة بوضع الجثو، التي مارسها الليبيون في دفن موتاهم، أكبر دليل على أن الليبيين القدماء، هم من اكتشفوا تحنيط الموتى. واستعمل الليبيون أوراق النباتات، مثل سعف النخيل، لإتمام عملية التحنيط، إضافة إلى ملح النطرون.

بحيرة الدم وكهف الجنون

وتمثل بحيرة «قبر عون»، الواقعة في منطقة وادي الحياة في الصحراء الكبرى الليبية، إحدى أبرز المفاجآت المثيرة، التي تنتظر الزائرين، حيث تمتاز بحرارة مياهها، وبملوحتها الشديدة، التي تتجاوز ملوحة مياه البحار بخمسة أضعاف، في محيط يعتبر خزاناً كبيراً للمياه العذبة، يمكن الوصول إليها، ولو من خلال النبش باليد، وترتفع من حولها واحات النخيل الباسق، في أحضان كثبان الرمال الذهبية.

ويبلغ عمق البحيرة 7.1 أمتار، ومما يعرف عنها، أن من يدخلها لا يغرق فيها، وإن كان لا يجيد السباحة، فالملوحة الشديدة للمياه، تجعل كل شيء يطفو إلى السطح، ولا ينزل إلى العمق، كما أنها مصدر شفاء لكثير من الأمراض، لا سيما الأمراض الجلدية.

وتعتبر «بحيرة الطرونة»، من أكثر المواقع إثارة، حيث يطغى عليها اللون الأحمر، ما جعلها تحمل كذلك اسم بحيرة دم، ويرد البعض سبب حمرة المياه، إلى وجود قشريات حمراء اللون داخل هذه البحيرة، الغنية بمادة بيكربونات الصوديوم، وهي مادة ذات استخدامات هامة في صناعات عدة، فضلاً عن تكلفتها المرتفعة.

وأما وادي الكواكب، فهو من أغرب ما يشاهده الإنسان على الأرض، واسمه بلغة الطوارق «وان تكوفي»، ويوجد قرب منطقة العوينات المتاخمة لجبال أكاكوس، حيث تبدو صخور ضخمة على شكل الكواكب، تشعر المشاهد وكأنه يسبح في الفضاء، ويصل متوسط قطر كل صخرة إلى خمسة أمتار، وتتراص الصخور الكروية جنباً إلى جنب، لمسافة تقارب 30 كلم.

وأما وادي مغديت، المتاخم للحدود المشتركة مع الجزائر، فهو عبارة عن غابات متحجرة، وهناك من يصفها بالمدينة المتحجرة منذ عشرات الآلاف من السنين، بإبداع هندسي صاغته الطبيعة، ليتحول المكان إلى قطعة من عوالم الخيال، أو من كوكب آخر غير مكتشف، حيث لا يمكن مقارنته بأي موقع آخر مألوف، وقد تحول إلى مزار سياحي مهم، يسعى القاصدون لملامسة آثار الحقب المترسبة عليه، ومعالم الجمال الموشومة عليه.

وتمثل الكهوف الجبلية العملاقة بمناطق غاب، كتاب أساطير مفتوحاً عبر الزمن، ومنها كهف الجنون، ويقال كاف الجنون، ويطلق عليه الطوارق اسم «أيندينان»، وهو عبارة عن جبل يمتد لمسافة نصف كيلومتر طولاً، وشكله البارز يتكون من تكوينات صخرية، يتناقل السكان المحليون منذ آلاف السنوات، أنه مسكن الجن، حتى إن الحيوانات التي تؤوي إليه أو تحوم حوله، كالغزلان والطيور، لا يمكن صيدها، ظناً بأنها مسكونة بأرواح الجن والأشباح، ولا يخرج الطوارق من منازلهم، إلا وهم يحملون قطعاً حديدية، كالسكين أو السيف، نظراً لأنهم يعتقدون بأن الجن يخاف الحديد.