ينقل الرائد أنتوني “ج. كاكيا” عن المؤرخ الروماني “جايوس سالوستيوس” (86- 34 قم) واقعة تاريخية عن ليبيا تقول: إنه حين كانت قرطاج تتنازع السيطرة على ليبيا مع اليونانيين الذين احتلوا المنطقة الشرقية وأسسوا عاصمتهم قيرينا، مدينة شحات حاليا، تقول الأسطورة إن المنطقة الممتدة بين قرطاج وقيرينا كانت عبارة عن صحاري رملية، ليس فيها من جبل أو نهر ليكون علامة حدودية بين الكيانين المتنافسين، مما جعل الحرب لاتكاد تتوقف بينهما، حتى كادت تذهب بالقوتين فتداعى الطرفان إلى هدنة، تواضعوا خلالها على اتفاق مفاده أن ينطلق العداءون من كلا المدينتين في يوم معين، وأن يكون مكان الالتقاء هوالحد الفاصل بين المنطقتين. اختار القرطاجنيون الأخوين فيلاني الذين كانا أسرع من ممثلي قيرينا. ولما أدرك أبطال قيرينا هزيمتهم، اتهموا القرطاجنيين ببدء الرحلة قبل موعدها. ورفضوا اعتبار الأخوين فيلاني فائزين، مقترحين في المقابل واحدا من حلين: إما أن يدفن الأخوين حيين في البقعة التي زعما أن حدود قرطاجنة يجب أن تكون عندها، وإما أن يسمحا لعدائي قيرينا بالتقدم غربا إلى نقطة تكون حدودا لليونان، ويدفنون عندها وهم أحياء. فلم يكن من الأخوين فيلاني إلا أن قبلا بأن يدفنا حيين على الفور من أجل بلديهما. فأقام القرطاجنيون عند تلك البقعة نصبا للأخوين تكريما لهما. وقد أطلق جنود الجيش الثامن خلال الحرب العالمية الثانية على ذلك النصب اسم “قوس المرمر”(1). لقد كان التاريخ الليبي مشرب بالتناقضات المزمنة، والانقسامات الداخلية الحادة، والتدخلات الدولية المتعددة الوجوه. مما أجل بناء الدولة وإطلاق المؤسسات. والدارس لملابسات الانقسام السياسي في الحالة الليبية، يجد أن تلك الأوضاع تأتي معاكسة لطبيعة المجتمع الليبي نفسه. فهو مجتمع متجانس على مستوى الدين والمذهب، يمثل الإسلام مكونا رئيسيا لنسيجه العقائدي، إذا استثنينا وجود أقلية يهودية جاءت فارة من الحروب الدينية في إسبانيا، ليجدوا أن الليبيين المسلمين كانوا أكثر تسامحا من أوربا المسيحية. أما على مستوى المكونات الاجتماعية، فلم يكن الاختلاف العرقي بين العرب والأمازيغ ذوي الأصول البربرية ليُهَوِنَ من الوحدة الوطنية. فتاريخيا كان البربر الداخلون في الإسلام بفعل الفتوحات الإسلامية في تجانس تام مع حالة التعريب المعمم. ولم ينهض بين القطبين أي استعداء إثني يمكن أن يقوض وحدة الليبيين، إلا لاحقا، نتيجة الحسابات الإقليمية والدولية. ومن هنا يحق لنا أن نتساءل ونحن نبحث في جذور الانقسام بين الليبيين: ما هي النوازل التي طرأت على الاجتماع الليبي، ومثلت مسوغات حاسمة لحالة الانقسام؟.
ربما كان الانقسام الليبي مجرد معطى جغرافي حتّمته الرقعة الجغرافية الشاسعة للبلاد، خاصة في زمن الفقر والخصاصة، وانعدام وسائل التواصل، وضعف الكيان السياسي. لقد كانت ليبيا دائما أكبر من سكانها، بل إن سكانها قد تلاشوا في صورة مكروسكوبية بين أحراشها وصحرائها، فباعدت بينهم المسافات قبل أن تباعد بينهم الأزمات. وقد كان للجغرافيا أحكامها القاسية، حيث طغت البداوة على التحضر، وسيطر التجاهل على التعارف، كما سيطر الصدام على الوئام. وليس غريبا أن تصبح القبيلة في مثل تلك الأوضاع نقطة ارتكاز النظام الاجتماعي. وقد عمل الاستعمار الإيطالي على تكريس أحكام الجغرافيا القاسية، حيث عمد إلى الفصل الإداري بين شرق البلاد وغربها، في حين ترك الجنوب ليعيش قدرهالبائس تحت الصراعات القبلية، ولاحقا تحت الاستعمار الفرنسي. لقد انهارت دفاعات الدولة العثمانية كاستتباع لحالة الانهيار الشامل التي عرفتها نهاية القرن التاسع عشر، وجاءت معاهدة الصلح الذليل التي جرى التصديق عليها في قلعة “سوشي بلوزان” السويسرية في الثالث من أكتوبر 1912 مع الإيطاليين. وهي المعاهدة التي أثارت استياء الليبيين، حيث بادر أحمدالشريف من مركز الحركة السنوسية جغبوب بمكاتبة الوالي العثماني أنور باشا في درنة ليقول له :”نحن والصلح على طرفي نقيض…إذا كان ثمن الصلح تسليم البلاد الى العدو”. وقد سعى الإيطاليون جاهدين إلى تذويب تلك الروح الثورية لدى الليبيين، وإذكاء التناقضات بينهم.
وباعتبار التجانس الديني والأقوامي في المجتمع والدولة، فقد لعب الإيطاليون على التناقضات القبلية والمناطقية. وهكذا فقد مثل الانقسام السياسي لليبيين مدخلا للاستعمار الإيطالي لتأمين السيطرة على البلاد والعباد. فجرى لأجل ذلك تثبيت حالة الانقسام بين طرابلس وبرقة بقوة السلاح وخبث المؤامرات. وهي الحقيقة التي أكدها الجنرال الإيطالي جراتسياني، حيث قال “أقيمت في كل من طرابلس الغرب وبرقة حكومة متميزة بمقتضى مرسوم ملكي صدر في التاسع من سبتمبر من عام 1912″(2). ولتثبيت تلك الأوضاع الشاذة، فقد جرى تعيين الفريق ثاني أوتافيو بريكولا أول حاكم على برقة. في حين جرى تعيين نائب الأميرال بوريا ريتشي حاكما على طرابلس، في انتظار استتباب السيطرة. وقد أرفد ذلك الانقسام المناطقي بالعمل على التفريق بين القبائل. فانحازت بعضها إلى الاستعمار في حين انحازت أخرى إلى المقاومة. وحين احتلت القبيلة موقعا في تلك التجاذبات، فقد عمق ذلك الانقسام من حالة التنافر بين شرق البلاد وغربها، وأحيانا في المنطقة الواحدة. وقد لعبت إيطاليا على كل التناقضات الممكنة، ففرقت بين القبائل، وبين المناطق، وبيد البدو والحضر، وبين العرب والبربر. وحين اختارت الزعامات الغربية الإعلان عن تأسيس الجمهورية الطرابلسية 1918، كان الإيطاليون ينجحون في تأجيج الخلاف بين مصراتة وورفلة،أو بين رمضان السويحلي وعبدالنبي بلخير، كما أذكوا النزاع بين الزنتان والبربر. وحين نجحوا في اختراق تلك الجبهات، فقد تمكنوا من إجهاض التجربة، والتمهيد للسيطرة على بقية مدن الجنوب ابتداء من السيطرة على غريان. وبعد الحرب العالمية الثانية عمل الإنجليزعلى استثمار ذلك الإنجاز الإيطالي. فسيطروا على برقة التي اعتبروها منطقة قائمة بذاتها. وجرى التفريط في منطقة فزان لصالح الفرنسيين الذين سعوا لضمها لمنطقة نفوذهم الممتدة على طول وسط إفريقيا وشمالها.وبناء على ذلك توسعت دائرة رعاة الانقسام إلى ثلاث قوى استعمارية رئيسية. وفي كل ردهات الاستعمار الغربي، إيطاليا كان أم انجليزيا أم فرنسيا، فقد جرى تثبيت الانقسام المناطقي داخل ليبيا. ولم يكن ذلك إلا إجراء تكتيكيا لتثبيت السيطرة. أو المدخل المفضل لتسهيل الهيمنة.
والحقيقة أنه لا الجغرافيا وحدها، ولا الاستعمار وحده، ولا الاثنين مجتمعين، كانا قادرين على قسم ظهر ليبيا دون أن يصادف ذلك هوى في نفوس بعض الليبيين. فالليبيون الذين كانوا يخضعون لمنطق القبيلة أحيانا، أو ينجذبون إلى هيمنة المنطقة أحيانا أخرى، كانوا ينزلون عند مقتضيات ذلك الانتماء الضيق، الذي عمل عبر التاريخ على إضعاف الانتماء الوطني الشامل، خاصة مع تصاعد دور الشيخ في القبيلة، ودور الزعيم في المنطقة “وهكذا تحددت مواقف الزعماء في كثير من الحالات على أساس جهوي، وكان لكل جهة صاحب يتولى أمرها ويقرر مصيرها ويحدد موقفها”(3).ولكن تلك الظواهر السلبية لم تخل من مضادات سياسية وحضارية ظلت تعمل دائما لصالح الوحدة والتحرر.