السرطان السبب الرئيسي الثاني للوفاة في العالم... ما هي المواد الضّارة الأكثر خطورة للمرض؟

د. نادر حسين

ينشأ السرطان بسبب حُدوث تَغيّرات وطَفَرات في الحمض النووي للخلية البشرية، يؤدي بعضها الى خَلَلٍ في وظائِف عدد من الجِينَات (خاصةً تلك الكابتة لِنُموِّ الأورام) المسؤولة مثلًا عن نُمُوِّ وانقسامِ الخلية، ما يؤدي الى تكاثر هذه الخلية بطريقة عشوائية لا يمكن السيطرة عليها، وهي تكتسب، مع الوقت وبفعل تراكم المُتغيرات والطفرات فيها، القدرة على التسلل الى أعضاء أخرى في الجسم حيث تتكاثر على حساب خلايا هذه الأعضاء ما يؤدي لاحقًا الى تعطيل وظيفتها الحيوية، وبالتالي تهديد حياة المريض.

تَنْتُج هذه المتغيرات بفعل تناولنا أو تَعَرُضِنا في شكل مستمر وطويل الأمد للمواد الضارة والسامة لِجسمنا ولحمضنا النووي.

مثال على هذه المواد الضارة:

التدخين الإيجابي أو السلبي، تناول الكحول، كثرة تناول اللحوم والمواد الغذائية المصنّعة، التعرض للإشعاعات، التعرض لفترات طويلة ومتكررة لأشعة الشمس ما فوق البنفسجية، بعض الفيروسات، المواد الكيميائية المُسرطنة، السمنة، الهرمونات، الالتهابات المزمنة، عدم ممارسة الرياضة... إلخ.

ومن المعروف أيضًا أنه ليس هناك سبب واحد يؤدي للإصابة بالسرطان، بل تضافر وتراكم مجموعة عوامل ضارة في الخلية.

قد يستغرق ظهور السرطان عقودًا، مع أنه أكثر شيوعاً بين كبار السن، لكن يمكن تشخيصه كذلك في أي مرحلة من العمر.

والجدير ذكره، أن السَرَطان يشكل اليوم السبب الرئيسي الثاني للوفاة في العالم، بعد أمراض القلب والأوعية الدموية. ويفوق العبء العالمي المتزايد لمرض السرطان قدرات بعض الدول على مكافحته، حيث تمّ في سنة 2020 مثلاً، تشخيص أكثر من 19 مليون حالة إصابة جديدة بالسرطان، ووفاة حوالى 10 ملايين شخص. وبحلول السنة 2040، من المتوقع أن يرتفع هذا العدد سنويًا إلى حوالى 30 مليون حالة سرطان جديدة و16 مليون حالة وفاة، وذلك وفقًا لتقديرات مرصد السرطان العالمي (Global Cancer Observatory).

في السنوات السابقة، ركّزت معظم الأبحاث حول السرطان على دراسة تأثير التعرض لأحد أو لعدد محدود من العوامل الضارة في تشكل وتطور أنواع معينة من السرطان في عددٍ من الدول. لذا تكمن أهمية الدراسة التي نُشرت في 20 آب من العام الحالي في دورية "ذا لانسيت" في كونها الوحيدة حتى الآن التي قدّرت (قيَّمت) مساهمة 34 عاملًا من عوامل الخطر (Risk factors) على عدد الوفيات بالسرطان وعلى تأزم حالة المصابين بالمرض من مختلف الفئات العمرية لكلا الجنسين وذلك لـ23 نوعًا مختلفًا من السرطانات.

ما يزيد أيضا من أهمية هذه الدراسة أنها قارنت تأثير تطور هذه العوامل بين العام 2010 والعام 2019 في بيئات مجتمعية مختلفة.

وقد صنّفت الدراسة عوامل الخطر ضمن ثلاث مجموعات:

- البيئية والمهنية كالتعرض للملوثات (استنشاق ألياف الأسبستوس...)

- السلوكية كالتدخين، تعاطي الكحول، الجنس غير الآمن...

- التمثيل الغذائي (الأيض) مثل ارتفاع مؤشر كتلة الجسم (BMI) أو ما يعرف بالسمنة الزائدة.

وقد شارك في هذه الدراسة آلاف الباحثين من معظم دول العالم ضمن برنامج Global Burden of Diseases" البحثي الذي تموله مؤسسة بيل غيتس.

أتاحت الدراسة معرفة المزيد من التفاصيل عن عوامل الخطر التي كانت مسؤولة عن 4.45 ملايين حالة وفاة بالسرطان على مستوى العالم في عام 2019 (ما يمثل 44.4٪ من إجمالي وفيات السرطان)، منها 2.88 مليون وفاة عند الذكور، أي ما يعادل 50.6 في المئة و1.58 مليون وفاة عند النساء أي ما يعادل ثلث عدد وفيات السرطان.

كما أشار الباحثون الى أن نسب وفيات السرطان المر

تبطة بهذه العوامل كانت على الشكل التالي:

36.9 في المئة من الوفيات تعود لحالات سرطان القصبة الهوائية والشعب الهوائية والرئة. يليها سرطان القولون والمستقيم (13.3%) وسرطان المريء (9.7%) وسرطان المعدة (6.6%) لدى الرجال، وسرطان عنق الرحم (17.9%) وسرطان القولون والمستقيم (15.8%) وسرطان الثدي (11%) عند النساء.

في شكل عام، لا تزال عوامل الخطر السلوكية ومن أبرزها التدخين واستهلاك الكحول إضافة الى ارتفاع مؤشر كتلة الجسم (BMI)، من أكثر العوامل المسبّبة لوفاة مرضى السرطان واعتلال صحتهم على مستوى العالم.

وقد بيّنت الدراسة أيضاً أن وفيات السرطان في العالم الناجمة عن عوامل الخطر قد ارتفعت بنسبة تقدّر بـ 20.4% من عام 2010 إلى عام 2019. وقد اختلفت عوامل الخطر بين البلدان التي شملتها الدراسة بناءً على مؤشرات التنمية المستدامة فيها. ففي الدول والمناطق الفقيرة ذات المؤشرات الاجتماعية والبيوغرافية المتوسطة والمنخفضة، كانت العوامل الخطرة الاساسية المسؤولة عن الوفاة واعتلال #صحة مريض السرطان هي التدخين، الجنس غير الآمن والكحول، بينما كانت في الدول حيث مؤشرات التنمية عالية هي التدخين، والكحول والسمنة الزائدة. مع تسجيل ارتفاع كبير لعامل خطر التمثيل الغذائي بين 2010 و2019.

وقد أكد الباحثون أن هذه الدراسة قد تساعد صانعي السياسات الصحية والباحثين في تحديد عوامل الخطر الرئيسية بغية الحد من التعرض لها لتقليل خطر الاصابة والعبء الناجم عن المرض. ويجب أن يكون هذا جزءًا من استراتيجيات مكافحة السرطان الشاملة التي تعتمد أيضًا على التشخيص المبكر والعلاج الفعال.

في لبنان، لا تسمح الظروف الحالية بالاستفادة من نتائج هذه الدراسة ويسجّل عدّاد الموت ارتفاعاً في وفيات مرضى السرطان. كيف لا، وقد تحوّل بلدنا إلى بيئةٍ مساعدة لتفشي كلّ أنواع السرطانات، بعد أن تلوّثت سماؤه وبحره وبرّه.

وكأن كل هذا لا يكفينا، لقد أوصلتنا الازمة الاقتصادية والسياسية غير المسبوقة الى هجرة الأطباء والممرضين، ما أدى الى تراجع كبير في الخدمات الطبية والاستشفائية. فتحول الوطن الذي كان يُعرف بمستشفى الشرق وجامعته يومًا إلى بلد يستجدي الدواء ويفتقد العديد منه. فالمصابون بهذا المرض يعتبرةن من أكثر شرائح المرضى حاجةً لنظامٍ صارم ودقيق في تناول الأدوية التي إما فُقدت في بلدنا أو زُوّرت أو تبخّرت بقدرة قادر كما حدث في شحنة الأدوية الأخيرة التي كان قد أعلن عن وصولها وزير الصحة فراس الأبيض.

بتنا نعيش أمواتًا أحياءَ...

*أستاذ وباحث في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية