آية بدر
باحثة ماجستير علوم سياسية، جامعة القاهرة - متخصصة بالشأن الليبي
تمهيد:
برغم مما تحقّق في ليبيا من إنجاز تاريخي بالتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار أعقبه حراك وحوار سياسي أفضى لتأليف حكومة وحدة وطنية إلى حين إجراء الانتخابات بحلول نهاية العام، إلا أن البلاد لا تزال تواجه العديد من التحديات على الصعيد الأمني والعسكري، والتي تُعدّ من أبرز المُهدِّدات لمستقبل العملية السياسية الليبية في ظل استمرار الانقسام والفوضى الأمنية، وفي ظل استمرار وجود المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وهو الأمر الذي لا يقتصر خطورته على الدولة الليبية وحدها، بل يمتد إقليميًّا وإلى دول الجوار الليبي.
فما يحدث في تشاد يعكس مدى التأثر بالتداعيات الإقليمية للأوضاع الأمنية والعسكرية في ليبيا التي شهدت عقدًا زمنيًّا من الفوضى والاقتتال منذ سقوط نظام "القذافي"، مع الوضع في الاعتبار الوضع الإقليمي المتأجج في إقليم الساحل الإفريقي على صعيد الممارسات الإرهابية والتوترات الأمنية والسياسية.
ومع مقتل الرئيس التشادي "إدريس ديبي" خلال مُواجهات مع الحركات المُتمرِّدة في معارك بشمال البلاد، فمن المتوقع أن يزداد الوضع السياسي والأمني سوءًا وتعقيدًا؛ سواء داخل تشاد أو في المجال الإقليمي لها، وكذا في دول الجوار التي تشهد بالأساس حالة من عدم الاستقرار على مختلف الأصعدة خلال المرحلة الانتقالية شأن دولتي السودان وليبيا.
وفي هذا الصدد؛ تُلقي الدراسة الراهنة الضوء على مستجدَّات الوَضْع عقب مقتل الرئيس "ديبي" من أجل دراسة التأثر بالوضع الأمني والسياسيّ في ليبيا، وانعكاس تلك التطورات على ليبيا وعلى الإقليم، مع التَّطرُّق للمسارات المستقبلية للوضع في ليبيا في ضوء تلك التطورات.
أولاً: نظرة عامة على التوترات التشادية الأخيرة:
حسبما أفادت الرواية الرسمية، فقد قُتل الرئيس التشادي "ديبي" خلال مواجهة مع المتمردين شمال البلاد، وذلك في أعقاب الإعلان عن فوزه بولايته الرئاسية السادسة. يأتي ذلك في الوقت الذي تتصاعد فيه موجات المعارضة والتمرد ضد نظام "ديبي" المنفرد بالسلطة لنحو 30 عامًا هيمن فيها على المجال السياسي بالبلاد، فضلاً عن الاستياء من تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية برغم مما تمتلكه تشاد من ثروات طبيعية ونفطية. ووفقًا لتقرير حقوق الإنسان الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عن تشاد لعام 2019م؛ فقد أشار إلى تصاعد ممارسات القمع والتصفية السياسية والاعتقال ضد معارضي حكم "ديبي"، مع تضييق الخناق في المجال العام على الحقوق والحريات، بالإضافة لاستمرار سياسات الإقصاء والتهميش ضد العديد من الفصائل والجماعات.[1]
وأعقب مقتل "ديبي" انتقالاً للسلطة عبر انقلاب عسكري على القواعد الدستورية؛ إذ حُلَّت الحكومة والبرلمان وتولَّى المجلس العسكري بقيادة نجل "ديبي" زمام الأمور لمدة 18 شهرًا حتى يمكن إجراء انتخابات ديمقراطية. مع تعهُّد نجله بالانتقام من المعارضة والجماعات المتمردة. ومن جانبها دعت المعارضة ومنظمات المجتمع المدني إلى عقد حوار وطني لإنهاء الاستقطاب والعنف واستعادة السلام والاستقرار وتجاوز تلك الأزمة.[2]
ثانيًا: الوضع الأمني والعسكري الليبي في أعقاب الاتفاق السياسي:
أما في ليبيا، فلا يزال الوضع الأمني والعسكري متفاقمًا بالرغم من تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بقيادة "عبد الحميد الدبيبة"؛ إذ لا تزال إشكالية انقسام المؤسسة العسكرية قائمة في ظل العراقيل التي تواجه عمل اللجنة العسكرية 5+5 المُشَكَّلَة في أعقاب اتفاق وقف إطلاق النار العام الماضي، وفي ظل الافتقار للثقة المتبادلة بين القوات العسكرية شرقًا وغربًا، فتكثف حكومة "الدبيبة" والمجلس الرئاسي جهودهما لرأب الصدع وتحقيق المزيد من الإنجاز في هذا الملف الشائك الذي ينطوي على العديد من أوجه الخلاف التي لم تُحَلَّ؛ مثل: إعادة فتح الطريق الساحلي، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وسبل إدماج القوات غير النظامية.
ونشير في هذا الصدد إلى وجود المرتزقة والمقاتلين الأجانب، بالإضافة إلى الميليشيات والتنظيمات الإرهابية وخلاياها، فمن شأن تلك العوامل أن تُعرقل جهود استعادة الاستقرار أمنيًّا وعسكريًّا وإصلاح الأجهزة الأمنية وإنهاء الفوضى. فلا تزال الميليشيات تتقاتل، ولا يزال أمراؤها يُمثِّلون تهديدًا لمكتسبات مسار الحوار السياسي.[3]
كما أن حكومة الوحدة الوطنية الوليدة لا تزال تواجه العديد من العراقيل والصعوبات التي تَحُول دون تَمَكُّنها من بَسْط سيطرتها وممارستها السيادة على كافة ربوع الإقليم الليبي، فبسبب الصراع المسلَّح الممتد لأكثر من عقد من الزمان، تعاني الأجهزة الأمنية من الهشاشة والضعف، وهو ما انعكس في تفاقم الخروقات القانونية والجرائم وتفشّي الانفلات الأمني في العديد من المدن الرئيسية، خاصةً في ظل انتشار الأسلحة وانحسار دور الدولة الليبية بفعل الاقتتال والصراع. ويمكن الاستدلال على تلك الإشكالية من تعثر زيارة حكومة الوحدة الوطنية لمدينة بنغازي التي كانت مقررة في يوم الاثنين 27 أبريل، وما تبعها من بيانات للتعقيب على تلك الواقعة مِن قِبَل الحكومة والقوات المسلحة.[4]
كما أن مجلس الأمن قد اتخذ قرارًا (S/2021/367) بالإجماع ينص على دعم الأمم المتحدة لآلية مراقبة وقف إطلاق النار الليبية، ويتضمّن المشروع اقتراحًا من الأمين العام بنشر 60 مراقبًا دوليًّا لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار بالتعاون مع اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، فضلاً عن توفير كافَّة سُبُل الدعم اللازمة لإجراء الانتخابات في موعدها. إلا أنَّ العديد من الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع لم تمتثل لقرار مجلس الأمن بعد، شأن المرتزقة من قوات فاغنر الروسية وبعض العناصر الإفريقية والتشادية[5]. هذا بالإضافة لاستمرار رَصْد خرق حظر التسلح عبر استمرار إرسال الأسلحة وعناصر المرتزقة إلى الأراضي الليبية.[6]
وبالتالي، يمكن القول بأن الأوضاع الأمنية والعسكرية في ليبيا لا تزال شائكة وتنطوي على العديد من الألغام والقنابل الموقوتة التي قد تقوّض مسارات السلام والحلّ السياسي حال تجدُّد الخلافات والاقتتال إن لم تُحَلّ تلك العراقيل والتحديات عبر استعادة وحدة المؤسسة العسكرية، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وحلّ أزمة الميليشيات، وإخراج كافة العناصر الأجنبية والمرتزقة.
ثالثًا: العناصر التشادية في معادلة الصراع الليبي:
وجدَت العناصر المتمردة في الجنوب الليبي أرضًا خصبة للتمركز بها والانطلاق منها نحو تشاد لشَنّ العمليات المختلفة ضد النظام التشادي، واستفادت من حالة الفوضى الأمنية وانفتاح الحدود الليبية وسيولة التسليح بفعل سقوط نظام القذافي وما صحبه من تدهور أمني وعسكري، فضلاً عن استغلال التشعُّب والتشابه العِرْقِيّ والقَبَلِيّ بين تلك العناصر المتمردة وبين المكونات الليبية القاطنة جنوبًا في مدن إقليم فزان، مثلما هو الحال للمكون القبلي والعرقي للتبو المتشعّب في الجنوب الليبي والعديد من دول الجوار، ومنها تشاد، ويستغله العديد من التنظيمات المتمردة المتواجدة بالجنوب الليبي.[7]
وتختلف تلك العناصر المتمردة في انتمائها العرقي والقبلي، إلا أنها تسعى لتعزيز نفوذها وتمركزها في شمال التشاد والنيجر والسودان، وكذلك في مدن الجنوب الليبي مثل أوباري وإجدابيا والكفرة وتازروبو ومرزق وسبها وأم الأرانب، من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية ضد النظام التشادي. وحاولت تلك العناصر استغلال حالة الفوضى والهشاشة التي شهدتها ليبيا في السنوات الأخيرة من أجل إحكام هيمنتهم على أراضي مدن الجنوب الليبي وثرواته النفطية والمعدنية مستغلين انحسار سيادة الدولة الليبية وغياب الدور العسكري عن كل أرجاء الإقليم الليبي، إلا أن بعض القبائل الجنوبية -مثل قبلية الزوية-، بالإضافة لبعض العمليات العسكرية قد عملت على رَدْع تلك الهجمات.[8]
تتسم العناصر التشادية بالمرونة في موقفها وتشابكاتها مع أطراف النزاع الليبي وتكوين شبكة تحالفاتها وفقًا لمصالحها وأهدافها وارتباطاتها الخارجية وأهدافها الإقليمية، والبعض منها غيّر تحالفه وانتقل من تأييد طرف ما إلى القتال ضدّه، والبعض الآخر تحالف مع التنظيمات الإرهابية المتطرفة التابعة للقاعدة مثل تنظيم سرايا الدفاع عن بنغازي، فضلاً عن أن العديد من تلك العناصر تستغل الفوضى الأمنية في جنوب ليبيا وتمارس العديد من الأنشطة الإجرامية والإرهابية.[9]
ومن ناحية أخرى، تُشير التقارير إلى التحالفات المتشابكة للعناصر والقوات المرتزقة التشادية مع طرفي النزاع والداعمين الخارجيين لكلّ طرف من طرفي النزاع، فالبعض منها يتحالف مع قوات "حفتر"، فيما يتلقى البعض الآخر دعمًا مِن قِبَل حكومة الوفاق الوطني.[10]
وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة بإيجاز إلى بعض أبرز العناصر التشادية المتمركزة في الجنوب الليبي والتي يتمركز البعض منها هناك منذ عهد القذافي:
-تجمُّع القوى من أجل التغيير: يغلب عليها انتماءات لعرقية الزغاوة التي ينتمي لها "ديبي"، ويقودها "تيمان أردمي" أحد أشهر المنشقين عن الرئيس التشادي، وكان من قبل مدير مكتب رئيس الجمهورية، وعمل على إسقاطه من قبل في عام 1998م.
-المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية: يتمركز بجنوب سبها، يضم العديد من المنشقين عن "ديبي"، وينتمون لعرقية الدزقرا.
-الحركة من أحل الديمقراطية والعدالة: ينتمون إلى عرقية التبو، وتستوطن في جنوب ليبيا، وتعتمد على العديد من العناصر من عِرْقية التبو ويزعمون أنهم ليبيون، ودخلت تلك الحركة في مواجهات مع نظام القذافي من قبل.
-جبهة الوفاق من أجل التغيير (FACT): تتمركز في سبها وخاصة أم الأرانب، ويقودها وزير سابق منشق عن الرئيس التشادي، وتشكَّلت إثر الانشقاق عن اتحاد قوى الديمقراطية والتنمية المدعومة من السودان، وتنتمي قبليًّا وعرقيًّا للتبو.[11]
جدير بالذكر أن جبهة الوفاق من أجل التغيير التي لعبت دورًا رئيسًا في حركة التمرد الأخيرة ضد الرئيس "ديبي" تتخذ من الجنوب الليبي معقلاً لها، واستغلت الأوضاع في ليبيا من أجل اكتساب خبرات في القتال؛ إذ دعمت تلك الحركة في البداية مقاتلي مصراتة ضد الجيش الوطني الليبي التابع لـ "خليفة حفتر" قبل أن تتحالف معه، وهو الأمر الذي عزَّز من قوة تلك الحركة التي استفادت من الأسلحة والمعدات الثقيلة التي حصلت عليها من قوات "حفتر" خلال معاونتها له -غير المباشرة- في معركته لتحرير طرابلس، وقد رُصِدَتْ تحركات تلك الجبهة تجاه شمال تشاد منذ 11 أبريل لتبدأ بعدها المواجهات بينها وبين الجيش التشادي وتنتهي بمقتل "ديبي".[12]
هذا، وتجدر الإشارة إلى إرهاصات تاريخية للتشابك بين ليبيا وتشاد، والتي تعود بجذورها إلى عهد "القذافي"، فثمة خلاف وتوتر في العلاقة بين البلدين وصلت إلى حدّ المواجهات والتدخلات العسكرية بفعل السياسات التوسعية تعرضت على إثرها ليبيا للعقوبات، ولكن منذ أن تولى "ديبي" الحكم في انجامينا تحوَّل نظام "القذافي" إلى وسيط بين النظام التشادي والعناصر المتمردة في ظل تدهور علاقة تشاد بالسودان، لكن لم تُفلح الجهود الليبية في الحيلولة دون تفاقم الخلافات وإرساء السلام وتحقيق إصلاحات داخلية.[13]
رابعًا: حدود التأثير والتأثر:
يمكن للعوامل القَبَلِيَّة أن تُلْقِي بظلالها وتُؤثِّر على تشاد ودول الجوار، وخاصة الجنوب الليبي والسودان، وذلك بفعل التشعب والارتباطات والتداخلات القَبَلِيَّة والعِرْقِيَّة في تلك المنطقة.[14]
ومن المتوقع أن يتسبّب مقتل "ديبي" في تأجيج المزيد من الإشكاليَّات والصراعات على السلطة داخل تشاد من أجل ملء الفراغ، وهو ما سيعزّز حالة الفوضى الأمنية داخل البلاد مع تزايد فعالية القوات المتمردة والمعارضة لسيطرة نجل الرئيس الراحل على السلطة والانقلاب على بقايا مؤسسات الديمقراطية والقواعد الدستورية عبر الاستقواء بالقوات المسلحة، والتي لا تزال محلاً للتساؤل حول إن كانت ستظل موالية للقائد الجديد أم لا، ومِن ثَمَّ فمن المتصوّر أن تؤدي تلك التطورات الداخلية إلى انشغال تشاد عن القيام بدورها الإقليمي بشراكتها في مكافحة الإرهاب؛ حيث كان الغرب يغضّ الطرف عن اعتبارات الديمقراطية والحريات مقابل أن يُعوّل على "ديبي" كفاعل مُهِمّ في مكافحة الإرهاب وإرساء السلام والأمن في المنطقة المتهددة بخطر الإرهاب والتطرف مِن قِبَل بوكو حرام ومثيلاتها؛ فقد كان جيشه شريكًا رئيسًا في عملية برخان الفرنسية في الساحل.[15]
وبالتالي، يترقب جميع الفاعلين الإقليميين جنبًا إلى جنب مع الشركاء الغربيين، وفي مقدمتهم فرنسا، من أجل تدارك تأثير رحيل "ديبي"، وبحث إمكانية التعويل على السلطة الانتقالية الجديدة للوفاء بالتزامات الشراكة الأمنية إقليميًّا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، في ظل التقديرات بشأن تداعيات الفوضى والاضطرابات داخل تشاد، وما قد تسفر عنه من فتح مجال لتنامي التهديدات الأمنية إقليميًّا حال تراجع تشاد عن مهماتها الأمنية.[16]
فقد أثبت "ديبي" أنه حليفٌ لا يُقَدَّر بثمنٍ في الحرب ضد التيارات الإرهابية والمتطرفة بمنطقة الساحل الإفريقي في ظل ضعف كافة جيوش تلك المنطقة، وهو ما تجلَّى في محورية الدور الذي لعبه في التصدي لتوغل متمردي بوكو حرام في عام 2015م داخل الأراضي النيجيرية، بالإضافة للمشاركة مع القوات الفرنسية في مالي عام 2013م للحيلولة دون استيلاء الجماعات المتمردة على السلطة.[17]
وذلك الاختلال في معادلة الأمن إقليميًّا من شأنه أن ينعكس على ليبيا، وخاصةً الجنوب الليبي، وهو ما ينطوي على العديد من التهديدات بشأن تجدد الاقتتال في ليبيا التي لا تزال تلتمس المسار نحو العبور من المرحلة الانتقالية نحو الاستقرار؛ إذ يُخشَى أن يتحوَّل الجنوب الليبي إلى ساحة لتنامي المعارضة التشادية تتلقى فيها التدريب والسلاح عبر الحدود المفتوحة، أو أن يتحول إلى بؤرة للجماعات المتمردة المستنفرة في إقليم الساحل الإفريقي ودول الجوار مثل القاعدة وبوكو حرام، خاصةً وأن الحركات المتمردة التشادية على دراية جيدة بالجنوب الليبي، ولها علاقات متشعبة بقوى قبائلية وعصابات وتشكيلات مسلحة تهيمن على أنشطة التهريب عبر الحدود، وسيتوقف الأمر على مستقبل التيارات المتمردة في معادلة الصراع على السلطة في انجامينا. كما أن مهمة تأمين الحدود الليبية الجنوبية لن تكون يسيرة بفعل اتساع تلك الحدود، مع غياب التنسيق الأمني المشترك بين ليبيا وتشاد واللتين تعانيان من الهشاشة الأمنية والفوضى الداخلية، بما يجعل ليبيا وتشاد بؤرتين للتوترات الأمنية إقليميًّا ومعقلاً محتملاً للعديد من التهديدات الأمنية.[18]
كما أن الأوضاع في كل من ليبيا وتشاد من المتوقع أن تتأثر بالتوازنات والأدوار الإقليمية والدولية للأطراف المنخرطة في المنطقة، ونشير في هذا الإطار إلى التحركات التركية والروسية والفرنسية والأمريكية والتي تعكس تنافسًا استراتيجيًّا بين تلك القوى، فتشير التقديرات إلى أن التنافس التركي الفرنسي قد ينعكس على الصراع في تشاد، ومِن ثَمَّ على الجنوب الليبي، فقد تعمل تركيا على إزعاج الوجود الفرنسي عبر دعم المتمردين التشاديين ضد الجيش التشادي فضلاً عن استمرارية سياستها التوسعية، وتعزيز نفوذها في ليبيا ومختلف أنحاء إفريقيا.[19] هذا بالإضافة للتنافس بالوكالة على النفوذ في الإقليم بين فرنسا وروسيا، وهو ما تجلَّى في الدعم الروسي غير المباشر للمتمردين عبر دعم قوات "حفتر" في النزاع الليبي من خلال التمويل والعتاد والقوات مثل فاغنر، وهو ما ينطوي على ضغط روسي ضد المصالح الفرنسية في تشاد.[20] كما أن الولايات المتحدة من جانبها تمارس ضغطًا ضد التوغل الروسي، بالإضافة لمطالبتها بإخراج جميع القوات الأجنبية من الأراضي الليبية[21].
التداعيات المستقبلية المحتملة:
وفقًا لتلك المستجدات والتطورات التي تشهدها تشاد مؤخرًا، والتي يمكنها أن تتأثر وتؤثر على الجارة الليبية، وخاصة الأجزاء الجنوبية منها، فيمكن الإشارة فيما يلي إلى بعض التداعيات والتقديرات المحتملة مستقبلاً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، فإما أن تؤول الأمور للاستقرار أو أن تستمر الفوضى.
إلا أن تحقيق الاستقرار يتوقف على أن تتوقف الفصائل المتقاتلة في تشاد عن الاقتتال، وتعود إلى مسار الديمقراطية عبر إرساء القواعد الناظمة للمرحلة الانتقالية في البلاد، وهو الأمر الذي سينعكس إيجابًا على ليبيا؛ حيث سيؤدي ذلك الاستقرار في تشاد لتحجيم التهديدات الأمنية على الحدود الجنوبية، مما يعزّز من فرص اهتمام الحكومة الانتقالية بإصلاح الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة والتصدّي للتهديدات الأمنية داخليًّا فضلاً عن أولويات السياسة الداخلية الأخرى, كما يتوقف ذلك على النجاح في إنهاء فوضى الميليشيات والمرتزقة وتوحيد القوات المسلحة الليبية من جديد، وهو ما يعتمد على نجاح الجهود والدعم الدولي والضغط لإخراج كل العناصر الأجنبية للقضاء على تلك الفوضى تحت مظلة قرار مجلس الأمن في هذا الشأن، وما استتبعه من جلسات مغلقة لمناقشة معوقات التطبيق؛ وذلك من أجل إنجاح إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بنهاية العام الجاري.
وقد تستمر الفوضى على الحدود الليبية التشادية بسبب تفاقم النزاع على السلطة بين نجل "ديبي" والقوات المتمردة، فضلاً عن إمكانية تزعزع الاستقرار داخليًّا حال وقوع خلاف بينه وبين القوات المسلحة التي كانت موالية لوالده، وهو ما يؤدي لاستمرار تنامي فعالية وخطورة الجماعات المتمردة في الجنوب الليبي وما تمارسه من جرائم وما تُشكّله من تحالفات مع التنظيمات الإرهابية. بل قد يؤدي ذلك إلى تجدُّد القتال في ليبيا حال تزايدت خطورة تلك التنظيمات للحدّ الذي يقوّض سيادة حكومة الوحدة الوطنية التي لا تزال تواجه العديد من التحديات من أجل بَسْط سيطرتها أمنيًّا، خاصة وأن حركات المعارضة التشادية كانت تعمل مرارًا على إحياء النزعات الانفصالية بالجنوب الليبي بالتعويل على العوامل العِرْقِيَّة والقَبَلِيَّة والخصوصية الثقافية لإقليم فزان. وقد عانى الإقليم من التهميش خلال عهد القذافي وما بعده، فضلاً عن غياب دور الأجهزة الأمنية والعسكرية ما بعد سقوط القذافي لتتحمَّل القبائل مهمة حفظ الأمن في الإقليم، وما استتبعه من تعميق الصراعات القبلية في الإقليم والمتأججة بالأساس منذ ما قبل 2011م، شأن الصراع بين أولاد سليمان والتبو على سبيل المثال لا الحصر. [22]
تعقيب ختامي:
يتبين مما سبق مدى التشابك والتداخل والتأثير المتبادل لما يحدث في ليبيا وتشاد، وهو ما يستلزم توحيد الجهود والتنسيق في مواجهة التهديدات الأمنية والسياسية بين البلدين اللتين تَمُرّان بمرحلة انتقالية حَرِجَة تتطلب وجود الإرادة السياسية اللازمة لاستعادة الاستقرار تحت مظلة الدعم الدولي للقضاء على المُهدِّدات الأمنية والعسكرية المتمثلة في المرتزقة وفوضى التسلح والإرهاب، فمثل تلك المُهدِّدات تَعُوق جهود الاستقرار وإرساء السلام، ليس في ليبيا وتشاد وحدهما، بل في النطاق الإقليمي الأوسع.