سياسة تمليها بلدان الخليج ·بتدخلها الهادف للدفاع عن النظام التشادي وتأييدها هجوم الماريشال حفتر الأخير في الفزان تغرق فرنسا شيئاً فشيئاً في المستنقع الإقليمي وفي حرب لا نهاية لها. ويبدو أنها لم تستخلص أي عبرة من فشل “الحرب على الإرهاب” ومن التجربة الأمريكية في أفغانستان.
لم يواجه الهجوم الذى شنه المارشال خليفة حفتر في أواخر شهر يناير/جانفي 2019 في منطقة فزان مقاومة تذكر إلا من طرف مجموعة التبو . وهو ما يذكر بالدور الاستراتيجي الذي تلعبه هذه المجموعة في فزان (انظر الخريطة).
دخلت قوات حفتر، إثر معارك ضارية، إلى مدينة مرزق، أحد معاقل التبو، في 19 فبراير، بدعم من ميليشيات قبلية وأخرى من المعارضة السودانية. وتلتها فورا في اليوم التالي عمليات انتقامية، انطلقت مع اغتيال الجنرال إبراهيم محمد كاري، مسؤول الأمن في المدينة، في منزله، على الرغم من أنه كان يعمل على تلطيف الأجواء والنفوس. وقد شجب النواب التبو ما وصفوه بعملية “تطهير عرقي” مع أنهم كانوا من مؤيدي حفتر.
ويأتي التورط المباشر لفرنسا التي وضعت طائراتها للمراقبة والاستطلاع في خدمة حفتر، ليؤكد تحولا في السياسة الفرنسية في ليبيا. إنه التحالف الاستراتيجي الذي اندرجت فيه فرنسا مع دول الخليج والذي بات يحدد سياستها في ليبيا.
لم يعد لفرنسا سياسة خاصة حقيقية بل صارت تتبنى سياسة المحور المشكل من المملكة العربية السعودية، الإمارات ومصر، الذي يدعم حفتر وميولاته الانقلابية وتزكي، إن لم نقل تشجع، أساليبه العنيفة التي تعمق أكثر فأكثر الشروخ في هذا البلد.
وهكذا تبتعد فرنسا عن دور الوسيط الذي كانت تنتهجه، مما يضعف آفاق الوصول إلى حل سياسي. على مستوى الميدان، يطرح تورط فرنسا في هذا الهجوم بعض التساؤلات بخصوص مستقبل علاقتها بمجموعة التبو التي كانت تربطها بها، على الدوام، علاقات مميزة، إلى درجة أن الفاعلين المحليين الآخرين اعتبروها تدخلا. وكان للتنافس الفرنسي الإيطالي أثر على مجموعة التبو التي أدخلت في صراع نفوذ مكتوم أدى إلى زعزعة استقرار بنياتها، لاسيما مع حصول “انقلاب” أدى إلى إقالة قائد المجموعة لتقربه المبالغ فيه من الإيطاليين.
يدخل هجوم حفتر ضمن رهانات السلطة في ليبيا. ولكنه هجوم يدرج هذه الرهانات ضمن الاستراتيجية الفرنسية التي يتمثل هدفها الأول في إنقاذ النظام التشادي. وتتطلب هذه الإستراتيجية التحكم في أراضي مجموعة التبو الليبية التي هي أساسا عابرة للحدود الوطنية والمتداخلة بشدة مع تشاد حيث يوجد موطن توالدها. وهي بالتالي تؤوي جزءا من المعارضة للنظام التشادي، والمتمثلة في التبو المتحالفين مع الزغاوة والذين تربطهم أواصر قوية وقديمة في هذه المناطق المألوفة لديهم.
شبكات تمتد الى تشاد والنيجر
ويمثل التبو مجموعة الزنوج الأفارقة الوحيدة في مغرب عربي-بربري وهي الأكثر تهميشا على المستوى الاجتماعي والرمزي1.
وهو تهميش أدى بالتبو إلى أن يكونوا السباقين في الالتحاق بالثورة في فزان التي كانت موالية في غالبيتها إلى السلطة القديمة. وقد أعطت لهم هذه الأسبقية شرعية وصعودا سمح لهم بفرض أنفسهم عسكريا وغزو أراض تتجاوز المجال الذي كانوا محصورين فيه. كما برزت عصبية هذه المجموعة التي بقيت أقرب إلى النظام القبلي، وتأكدت بقوة في غياب سلطة مركزية قادرة على تنظيمها وتعززت بطبائع أنثروبولوجية خاصة. ولمفهوم زنا المحارم امتداد استثنائي لديهم حيث ينطبق على العلاقات حتى الدرجة الخامسة من القرابة. وهو ما يفرض أن تتم العلاقة الزوجية أبعد من هذا المجال. وهكذا يتسع رابط علاقة الأخوة بين الأقرباء حتى الدرجة الخامسة ويفرض تضامنا في هذا المستوى، كما تسمح المصاهرة بتوسيع علاقة التضامن إلى أبعد من ذلك.
ويعطي ذلك للمجموعة عصبية وتضامنا قويا وواسعا، مما يفسر التماسك الأكبر لديها في حالة نزاع. وهو ما يفرض على المجموعة هيكلة فرعية تتجاوز الحدود الوطنية. وهكذا تمتد كل الشبكات العائلية والعصبية بدون استثناء على رقعة البلدان الثلاثة: تشاد وليبيا والنيجر، وأحيانا السودان، عبر نسيج متشابك. ويسمح ذلك بتجنيد الشبكات والموارد العابرة للحدود. ويشكل أيضا أداة فعالة في التجارة العابرة للحدود التي كان أبناء التبو ركيزتها الأساسية الضرورية بالنسبة للقبائل المتاجرة في فزان، قبل أن تقوم بتثمينها منذ الثورة لحسابها.
وينعكس ذلك في تصورات المجموعة حيث يستحيل عليها أن تحدد نفسها ضمن حدود معينة لأن الرابط، بغض النظر عن الحدود، ليس فقط متعلقا بالانتماء إلى نفس المجموعة بل هو شعور بالانتماء إلى نفس العائلة. فوجود متمردين تشاديين، والتبو منهم خاصة، يندرج في واقع هذا البنيان الاجتماعي العابر للحدود ولا يمكن اختزاله في مجرد تدخل قوات أجنبية أو فراغ مؤسساتي وأمني يشجع على تصدير الصراعات الى الأرض الليبية.
تعززت الغلبة العسكرية التي تمكنوا منها مع توسيع رقعة الأراضي تحت نفوذهم. وهكذا تمكنوا من السيطرة على الحدود مع تشاد والنيجر، وجزئيا على الحدود مع السودان، وعلى أهم الطرق الصحراوية انطلاقا من الجنوب الليبي. وقد فرضوا سلطتهم على كل حوض مرزق وجزء من مدينة سبها وأيضا على حقول ومنشآت نفطية. ولكن عصبيتهم القوية لم تمنع حدوث انقسامات سياسية، فهم يتوزعون بين ثلاثة أقطاب للسلطة: قطرون ومرزق وأم الأرانب.
تنافس بين روما وباريس
جعلت مسألة السيطرة على الحدود والفضاءات الاستراتيجية العابرة للحدود من هذه المجموعة محل تنافس فرنسي إيطالي في ليبيا. وبالنسبة لفرنسا، سواء أكانوا في الجيش التشادي أم متحركين بين الحدود، فالتوبو صحراويون لهم معرفة ثمينة بالميدان في مجال عملية “برخان” وعلى الخصوص في محيطها. وبالنسبة للإيطاليين يتمثل الرهان في السيطرة من المنبع على حركات الهجرة التي لم يتمكنوا من التحكم فيها على الشواطئ الليبية بالرغم من تواطئهم مع ميليشيات قاموا برشوتها قصد نهيها عن تجارة تهريب البشر وتحويلها إلى حراس سواحل غير رسميين. ويأخذ الإيطاليون على الفرنسيين تواطؤهم مع التبو ويتهمونهم بالتغطية على عمليات تهريبهم وخاصة تهريب المهاجرين. وعملوا بدورهم على التقرب من التبو عن طريق لعب دور الوسيط في النزاعات التي هم متورطون فيها. وقد استعملوا في هذا الغرض اللقاءات والسفريات و“التعويضات” للضحايا وحقائب الأموال للقادة وأصبحوا بذلك يهددون العلاقة الحصرية التي كان يتمتع بها الفرنسيون مع التبو.
امتزج هذا التنافس الفرنسي الإيطالي بصراعات إعادة التصنيف داخل مجموعة التبو نفسها. فمنذ سقوط القذافي أصبحت قبيلة “خريصات” هي الصاعدة في القوة الاقتصادية والعسكرية. وهي قبيلة أكثر ارتكازا على ليبيا واستفادت، بالرغم من التمييز، بتعليم أوفر وعلى الخصوص بروابط مع متعاملين ليبيين أقوياء في مجال التجارة الصحراوية التي خدمتها. وينحدر منها أهم القادة العسكريين مثل المرحوم باركا واردكو، كما ينحدر منها أغلب ممثلي هذه المجموعة في المؤسسات السياسية أو البرلمان. كما ينحدر منها أيضا أهم رجال الأعمال، خاصة الوسطاء في تجارة الذهب الذي أضحى موردا جديدا بعد اكتشاف مناجم له في بلاد التبو. لم يكن ينقص الخريصات سوى سلطة الرموز مع أرباحها المحتملة. والعائق في ذلك هو أن القيادة تنحدر دوما من فصيل “الغونا” الذي يعتبر نبيلا ولا تتم الخلافة إلا بعد موت القائد. وهنا تم توظيف واستعمال التنافس الفرنسي الإيطالي في صراع على الخلافة. فقد تم تنظيم عملية خروج عن شيخ التبو في ليبيا حيث أعيب عليه الثراء الشخصي على حساب رهن مصالح المجموعة لإيطاليا التي قام بزيارات عديدة إليها. وقام على خط هذا الشرخ جزء من قادة القبائل، متجاوزين بذلك القوانين العرفية، بانتخاب شيخ جديد. وقد أدخلوا بذلك أسلوب الانتخاب والإقالة الغريب عن الأعراف. وحتى وإن كان أقل حضورا، فقد قاوم الشيخ السابق هذه الإقالة. وبالتالي أصبحت تتنافس الآن في الميدان قيادتان، لكل واحدة منها ولاءاتها الدولية، مما يعقد أكثر الوساطات مع مجموعة هي في الأصل مجزأة.
بخصوص التجارة الصحراوية
لقد تخلل صعود مجموعة التبو حروب بدأت غداة الثورة ولازالت تتواصل حتى بداية 2019 في شكل “مسيرة كبرى”. كانت حرب التبو مع التوارق محل تغطية إعلامية أكبر لأن الحرب بين قبيلتين رحل تثير في الأذهان صوراً ملحمية. ولكن الحرب مع القبيلة العربية ل“أولاد سليمان” كانت الأكثر حدة والأكثر ديمومة. فأولاد سليمان وخاصة سلالة “سيف النصر” هم في الطرف الآخر، في أعلى السلم الاجتماعي، وقد حكمت فزان منذ العهد العثماني بصفة شبه مستمرة. وعمل القذافي على القضاء سياسيا واجتماعيا على سلطة هذه العائلة.
فالحرب التي لا نهاية لها اليوم ترجع إلى العلاقة الخاصة بين المجموعتين. وهي علاقة تتميز بتقارب كبير ولكنه تقارب موجود في إطار هرمي صارم. وقد تشكلت هذه العلاقات الوطيدة القديمة حول التجارة الصحراوية. فكثيرا ما يستثمر أولاد سليمان في التجارة وكثيرا ما خدمهم التبو كوسطاء ونَقَلَة لبضائعهم قصد مساعدتهم في التوغل في أعماق الساحل. وهذا الترابط التجاري بينهما من القوة بحيث ظل يفعل فعله حتى في أوج لحظات التوتر. ولكن مع المكانة الجديدة التي تبوأها، اكتسب التجار التبو استقلالية وأصبحوا يتفاوضون على شراكات تصب في مصلحتهم. وهو ما يشكل ضربا للعلاقة الهرمية بينهما.
“خطر أسود”
أدت زعزعة المواقع الهرمية من طرف التبو إلى موجة صدمات في كل فزان. وفيما يخص العلاقة مع أولاد سليمان، كان ذلك بمثابة زلزال حقيقي بسبب التشابكات والارتباطات التي كان يتعين فكها وإعادة صياغتها. لذا ما انفكت الحرب التي تدور بينهما تستيقظ بعد كل تهدئة على الرغم من مبادرات التوفيق المحلية والوطنية والدولية العديدة. وهي حرب بدأت غداة الثورة في مارس/ آذار 2012، وكان ذلك أول صدام معلن بين المجموعتين والمستمر إلى يومنا هذا.
وقصد عزلهم لجأ خصوم التبو إلى التلاعب بفزاعة وجود “خطر أسود” و“غزو إفريقي” متعاملين معهم كأجانب ومشككين في انتمائهم للبلاد، خاصة أن جزءا منهم كانوا قد استفادوا في فترة متأخرة من الجنسية الليبية عندما عمل القذافي على توظيف هذا العامل قصد تجنيد أبناء الساحل في ميليشياته. وكرد فعل نمى شباب التبو بمرزق نزعة هُوية إفريقية عنصرية. وعندما اندلعت أول مواجهات مع أولاد سليمان لم تقم قوات التدخل التي أرسلت من طرابلس ومصراتة بدور الوساطة بقدر ما كانت تدعم أولاد سليمان الذين كانوا يقدمون النزاع على أنه يدور بين “عرب ضد أفارقة”. وهذا ما يفسر بالنسبة للكثير ابتعاد جزء من التبو عن طرابلس ليلتحقوا بالماريشال حفتر.
ويؤكد ذلك بأن النزاعات المحلية في ليبيا، وخاصة بفزان، هي التي تحدد التحالفات السياسية الوطنية وأن هذه الاخيرة يمكن أن تتغير وفقا للسياق المحلي. وقد أدت نفس الأسباب إلى التقلب في هذه التحالفات. فعلى الرغم من وصفه “بالوطني” اعتمد جيش حفتر الذي وصل إلى فزان على “لجان الدعم” والتي هي في الواقع ميليشيات قبلية، شبيهة بتلك الموجودة في الشرق، وعصية على السيطرة. وهي تقوم بانتهاكات تنم عن نقمة اجتماعية أكثر منها تنافس سياسي. ويقوم حفتر بالتغطية عليها قصد المحافظة على دعمها، كما سبق وأن فعل مع محمود الورفلي الذي صار متابعا منذ سنتين من قبل محكمة الجنايات الدولية.
هل يعود ذلك إلى حماقة تكتيكية أم الى حساب لا أخلاقي ؟ تنحدر “لجان الدعم” التي ترافق حفتر في فزان من القبيلتين الأكثر محاربة للتبو في كفرا وفزان وهما الزوي واولاد سليمان. بالنسبة لهذه الأخيرة فإن ميليشيات “جدي” هي التي التحقت بحفتر، وهي تتشكل من عناصر من فصيل “الميايسة” الأكثر فقرا والأقل تقديرا اجتماعيا لدى اولاد سليمان، وهي التي عاشت أكثر في تشاد بالقرب من التبو. وفي هذه المنافسة الدائرة في أسفل السلم الاجتماعي فهي التي تكن أشد العداوات لهؤلاء وتعمل على التميز عنهم بكل قوتها.
كما تم أيضا في هذا الهجوم تجنيد ميليشيات المعارضة السودانية، التي لها سجل ثقيل من المواجهات مع التبو. وقد تم ذلك على الرغم من أن الهجوم تم باسم مكافحة “الميليشيات الأجنبية”. وكما هو متوقع فهو شرخ جديد تم فتحه وتتورط فيه فرنسا بصفة مباشرة هذه المرة. فرنسا التي يبدو أنه لم يعد لديها سياسة في ليبيا غير سياسة بلدان الخليج.
علي بن ساعدأستاذ جامعة، المعهد الفرنسي للجغرافية السياسية، جامعة باريس 8