في تسعينيات القرن الماضي، انتقلت النزاعات المسلحة من حروب بين دول إلى صراعات داخل حدود الدولة الواحدة. ولم تعد الحروب الحديثة تجري داخل ساحات القتال بين جيوش من العسكريين المحترفين؛ وإنما يستعر أتونها داخل المدن والقرى على أيدي مليشيات غير محترفة، لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية للأطراف المتنازعة داخليا، تفجرها-في الغالب-نزاعات دينية وعرقية تعيشها شعوب تلك البلدان.
لقد أتت تلك النزاعات والصراعات الداخلية الجديدة على كل شيء، فهي لم تقتل وتهجر وتعذب الإنسان فقط، وهي لم تدمر البنى التحتية والتي يعنى بها رأس مـال المجتمع، مثل: المدارس والمستشفيات والطرق والجسور والسدود والمحطات والمطـارات، وإنمـا دمرت البنى الفوقية، والتي يقصد بها التشريعات والأنظمة والقوانين، والإطـار الأكبـر لهـا هـو مؤسسات الدولة التي كانت تحكم عمل البنى التحتية. والذي لم تدمره الحرب بشكل مباشر دمرتـه أيادي خبيثة جاهلة من خلال عمليات السلب والنهب والحرق والتهريب. وكان من نتيجة ذلك أن أصبح أكثر من (90%) من ضحايا حروب اليوم هم المدنيون، وشبه انهيار كامل للبنى التحتية والأعيان المدنية، وخلو شبه كامل من التشريعات والقوانين والأنظمة.
ولكن... دائما، وفي كل الأحوال، تتطلع شعوب البلدان المتضررة إلى نهاية تلك النزاعات المسلحة، وبدأ مرحلة جديدة من التفاهمات والمصالحات، وعندما تضع النزاعات والصراعات أوزارها، نتيجة توقيع اتفاقية سلام بين الأطراف المتنازعة، أو إعلان أحد الأطراف انتصاره على الآخر، أو عقد تسوية بشكل ما، أو غير ذلك، يكون من الضروري التفكير بإعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقا في المناطق المتضررة من خلال استراتيجية "إعادة الإعمار والتنمية لفترة ما بعد النزاعات" واستخدامها كفرصة لإعادة تنظيم الدولة والمجتمع المتضررين.
فماذا تعني استراتيجية "إعادة الإعمار والتنمية لفترة ما بعد النزاعات"؟ وماهي الإجراءات الساعية إلى توطيد السلام وتعزيز التنمية المستدانة وتمهيد الطريق أمام النمو واستعادة الحياة في الدول والأقاليم الخارجة من النزاعات؟ وماهي أهدافها ووسائلها؟ ومن هم اللاعبون الأساسيون؟ وماهي أدوارهم؟ وماهي العقبات التي تحول دون استكمال علميات السلام والبناء والاستقرار؟ وكيف يمكن أن نحصل على مجتمعات محلية متوافقة ومنسجمة وفاعلة، بعد فترات طويلة من الصراع والنزاع؟
إن استراتيجية "إعادة الإعمار والتنمية لفترة ما بعد النزاعات" هي مجموعة شاملة من الإجراءات الساعية إلى تلبية احتياجات الدول الخارجية من النزاعات بما في ذلك احتياجات السكان المتضررين، والحيلولة دون تصاعد النزاعات وتفادي الانتكاس إلى العنف، ومعالجة الأسباب الجذرية وتدعيم السلام المستدام. وتعتمد استراتيجية اعادة الاعمار على أربعة ركائز أساسية هي: الأمن، والعدالة والمصالحة، والرفاه الاجتماعي والاقتصادي، والحوكمة والمشاركة.
وهذا يعني أن مفهوم إعادة إعمار المناطق المدمرة لا يتوقف على الشق الاقتصادي وحده كإعادة تأهيل قطاعات الإنتاج من زراعة وصناعة وخدمات، ولا يعني فقط إعادة بناء شبكات الطرق والجسور والأنفاق التي لحقها دمار واسع وشبكات المياه والكهرباء وغيرها، بل يُعنى بالإنسان؛ المتضرر الأكبر من هذا النزاع، الجريح وعائلة القتيل، اللاجئ والنازح والمعتقل، بالإضافة إلى عملية المصالحة وضمان الاستقرار وعدم تدهور الأوضاع من جديد، وقيادة مرحلة جديدة تؤسس لما بعد الصراع.
ويعد ترسيخ الأمن الداخلي والاستقرار الاجتماعي عبر ضمان عدم تدحرج الأمور إلى السابق، من أهم الأمور التي يجب العناية بها في العملية وإيلاء المؤسسات التعليمية أهمية قصوى في إعادة الإعمار من مدارس ومعاهد وجامعات وسواها. وتأسيس برنامج صحي عاجل لعلاج الحرجي المتضررين، والاهتمام بهم، فضلا عن التركيز على تجهيز المشافي والمراكز الصحية وإعادة تأهيلها من جديد لتتحمل عبء المرحلة الجديدة.
ولأن عملية إعادة الإعمار عملية شاقة ومعقدة، فقد جرت العادة أن يكون هناك طرفان رئيسان يتبنيان معا ويتعاونان في إعمار وتنمية المناطق المتضررة، إحداهما طرف داخلي والثاني طرف خارجي. فأما الأطراف الداخلية الفاعلة والتي يُشار إليها عموماً على أنها (أصحاب المصلحة) فهي إما أن تستند إلى المشهد الاجتماعي للبلدان في مرحلة ما قبل الصراع (مثل الأحزاب السياسية، والقبائل والعشائر، وجمعيات رجال الأعمال) أو باعتبارها عناصر في مرحلة الصراع (مثل الميليشيات والشبكات الإجرامية)، ويلعب أصحاب المصلحة العديد من الأدوار المتعلّقة بإعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع، إما كعوامل مساعدة أو معرقلة للسياسة العامة بحسب معتقدات ومصالح وتوجهات كل طرف من تلك الأطراف.
وفيما يتعلق بالأطراف الخارجية لإعادة الاعمار كالدول التي تقدم الدعم الثنائي، وبرامج الأمم المتحدة ووكالاتها، والمنظمات غير الحكومية الدولية، والبنوك والشركات الدولية، فالقاعدة هي المشاركة الدولية الواسعة، للانخراط في إعادة الإعمار بهدف مساعدة المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراع. وهذه المشاركة الدولية للأطراف الخارجية تأتي نتيجةً لعاملين رئيسَيْن: أولاً، مطالب تمويل سياسات إعادة الإعمار التي لا يمكن تلبيتها من جانب السلطات السياسية المحلية التي تفتقر عادة إلى وجود قاعدة إيرادات لدعم الإنفاق على إعادة الإعمار؛ وثانياً، الاستثمارات السياسية التي تقوم بها الجهات الفاعلة الدولية التي تراهن على وقف الصراع.
وفي الواقع، فإن جزءاً كبيراً من المجتمع الدولي ركّز جهوده على مجالات رئيسة في إصلاح القطاع الأمني. حيث أن الهدف الرئيس لإعادة الإعمار-بالنسبة إلى العديد من الدول المانحة-تعزيز قدرات الدولة، وخصوصاً أجهزتها التي تمتلك حق ممارسة القوة، والتي يمكنها الحفاظ على النظام ومنع العودة إلى الصراع. وقد أدّت مركزية الأمن في إعادة الإعمار إلى جعل العلاقة بين الأمن والتنمية مرجعية في كيفية تشجيع الدول المانحة على التنمية من خلال الأمن.
ومع ما يمكن أن تقدمه استراتيجية إعادة الإعمار إلى الدول الخارجة من الصراع، فإن التجربة تدل على أن عمليات التحول من النزاع إلى السلام تظل هشة في مراحلها الأولى، كما تظل مخاطر استئناف العنف مرجحة للغاية. ويرجع ذلك إلى أن الدول الخارجة من النزاعات تتسم بقدرة ضعيفة أو منعدمة على جميع الأصعدة، ومؤسسات مدمرة، وعدم وجود ثقافة ديموقراطية، وانعدام الحكم الرشيد وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، فضلا عن الفقر الكامن وراء هذا كله. وعلاوة على ذلك، فإن الاستجابات للأوضاع لفترة ما بعد النزاعات مازالت مفتتة وغير فعالة إلى حد كبير.
نعم، يمكن القول إن استراتيجية إعادة الاعمار ليست سهلة، ولا يمكن تصورها كما هي، بل تواجه هذه الاستراتيجية مجموعة من التحديات التي ربما عطلتها تماما في بعض الدول، أو عرقلتها وحدت من فعاليتها في دول أخرى، ومن هذه التحديات هي:
1- آليات تمويل استراتيجية إعادة الاعمار: إن إعادة الاعمار ليس استراتيجية وتصور فقط، بل هي سياسات وبرامج ومشروعات، وهي بحاجة إلى أموال طائلة، ولأن الدول الخارجة من الصراع لا تتوفر لديها الأموال، ولا يمكن تنفيذ سياسات إعادة الإعمار من خلال الاعتماد على الإيرادات المحليّة أو الاحتياطيات الموجودة لدى تلك الدول، فانها مضطرة على الاعتماد على الدعم الخارجي، ومشكلة الدعم الخارجي هو دعم متداخل، ولا يأتي عن طريق واحد، فقد يكون هذا الدعم مباشرا من خلال المساعدات الثنائية، أو دعم المنظمات غير الحكومية؛ أو من خلال آليات التمويل المجمّعة، مثل الصناديق التي تديرها الأمم المتحدة؛ والتمويل الموجّه إلى المنظمات غير الحكومية أو المنظمات غير الحكومية الدولية، ويمكن أن يتم التمويل عبر الاستثمارات وغيرها، الأمر الذي يربك عملية الإعمار والبناء ويقلل من فاعليتها.
2- ربط التمويل بالقرارات السياسية: ينطوي التحدّي الثاني على ربط التمويل بالقرارات السياسية. وهذا ينطبق على سياسات الحكومة المانحة والحكومة الوطنية. وتزداد صعوبة إقامة صلات مباشرة بين القرارات السياسية والنتائج.
3- تحديد الجهات المنفذة: بسبب التحدّي الثالث المتمثّل في كيفية توجيه الموارد إلى وكلاء إعادة الإعمار. فهناك مروحة واسعة من وكلاء القطاعَين العام والخاص القادرين على تنفيذ سياسات إعادة الإعمار، تمتدّ من مؤسّسات القطاع العام إلى منظومة المنظمات غير الحكومية. وبالتالي، تمثّل كيفية توجيه الدعم المالي لوكلاء إعادة الإعمار مشكلة بالنسبة إلى أي برنامج لإعادة الإعمار.
4- ضمان عدم حصول النزاع: ويكمن التحدّي الرابع في ضمان ألا يؤدّي التمويل إلى إدامة الصراعات. ففي حالة الصومال، يقول كين مينخوس إن الجهات الفاعلة الدولية أسهمت فعلاً في إدامة الصراع في الصومال من خلال انتهاج سياسات تتجاهل الحقائق على الأرض وتعزّز السلطة السياسية للجماعات التي ساهمت في القتال، ويمكن أن يقال هذا عن إعادة اعمار العراق بعد عام 2003 إلى حد كبير.
وفي المحصلة، فان عدد من المنظمات الدولية ذات الصلة بموضوع إعادة الاعمار، كالدراسة التي أجراها (معهد بروكنز) ترى أنه لكي تنجح عملية إعادة الاعمار، يجب أن تبنى على المقومات الآتية:
- وضوح الأهداف وبناء نوع من الاتفاق حولها: نظرا للفوضى والتشوش في مرحلة ما بعد النزاع يبدو أن هناك حاجة لكل شيء وفي الحال، وقد يكون هناك أطراف عديدة ذات أولويات مختلفة. وفي العموم يجب أن يهدف البرنامج الاقتصادي للنمو لـ:
1-إعادة تأسيس الوظائف الاقتصادية الاساسية للدولة واستعادة مشروعيتها مع ضرورة نزع المركزية عن تلك الوظائف وتوزيعها بشكل لامركزي بين الاقاليم.
2-تشجيع الاستخدام وتحسين الرفاه بأسرع ما يمكن.
3-مواجه الجذور الاقتصادية للنزاع وخصوصا منطق الاستثناء الاقتصادي ومنعه من السيطرة على عملية اعادة الاعمار. 4-تحقيق الاستقرار الاقتصادي ووضع على مسار النمو.
- الحساسية للسياق: في سياق ما بعد النزاع يجب أن تكون هناك حساسية عالية جدا للأبعاد السياسية والاجتماعية للنزاع. ويجب أن تواجه برامج النمو الاقتصادي تلك الابعاد. وأن تهتم بطبيعة النزاع وطبيعة السلام ومستوى التنمية الاقتصادية للبلد عند خروجه من الحرب. ولكي تكون عملية إعادة الاعمار فعالة في مثل هذه البيئة السياسية الحساسة، يجب أن يتضمن كل قرار متعلق بإعادة الاعمار اعتبارات الاثر على مشروعية الحكومية وفرص العمل والرفاه الاقتصادي والعدالة أو تصورات العدالة لدى مختلفة المشاركين في النزاع. وهنا يمكن أن يكون مفيدا أن يتم تصميم عمليات اعادة الاعمار من الاسفل إلى الاعلى بالاعتماد على الفعاليات المحلية (لامركزية إعادة الاعمار).
- البراغماتية: ويعني إدراكا واسعا للعوائق الاساسية التي تقف في وجه النمو الاقتصادي. ومواجه المسائل البسيطة، وإزالة العوائق أمام القطاع غير الرسمي، من خلال هيكلة العمل بما يحقق أكبر منفعة مباشرة بطريقة عادلة.
- القيادة المحلية: يجب أن يقود البرامج القيادات المحلية باستخدام النظم والمؤسسات المحلية عند وجودها. ويجب أن تطور المبادرات من خلال عملية تنسيق بين مختلف الفعاليات. وإذا لم يوجه تمويل إعادة الاعمار إلى الفعاليات المحلية ولم تدار محليا، فإن المشروعات ستعكس الأهداف السياسية وأولويات نظام الاستثناء السابق بدلا من المجتمع.
- بناء الامكانيات: سواء المادية أو البشرية من خلال وضع خطط وبرامج من أجل استعادة رأس المال المادي والبشري من الخارج وتفعيل برامج للتدريب المهني خارج وداخل العمل وإعادة ترميم نظام التعليم