هل سينجح انقِلاب مُرتزقة فاغنر في الإطاحة بالرئيس بوتين بدَعمٍ أمريكيّ



هل سينجح انقِلاب مُرتزقة فاغنر في الإطاحة بالرئيس بوتين بدَعمٍ أمريكيّ؟ ولماذا جاء في هذا التّوقيت بالذّات؟ ولماذا كان أردوغان وقديروف أوّل الدّاعمين؟ وما هي العبارة الأهم في خطابِ بوتين؟

عبد الباري عطوان


هذه “الخيانة الكُبرى” التي أقدم عليها يفغيني بريغوجن رئيس قوّات جماعة فاغنر حسب وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جاءت لإجهاض الانتِصار الكبير الذي حقّقه الجيش الروسي بتصدّيه للهُجوم الأوكراني المُضاد، الذي راهنَ عليه حلف “النّاتو” ودُوله، وإفشاله باعتِراف الرئيس زيلينسكي ببطئه ولومه واتّهامه للولايات المتحدة ودُول حلف النّاتو بعدم تقديم الأسلحة والمعدّات العسكريّة المُتطوّرة والكافية.

الرئيس الروسي بوتين الذي فُوجِئ بهذا التمرّد العسكري، ومن أقرب حُلفائه (بريغوجن ومُرتزقته) سارع بإلقاءِ خطابٍ قصيرٍ اليوم لم تزد مُدّته عن خمس دقائق اعتبر فيه هذا التمرّد “طعنةً في الظّهر”، و”خيانةً عُظمى”، وحذّر من التّهديد القاتل المُتمثّل في إشعال فتيل الحرب الأهليّة، وتعهّد بسحق هذه الخِيانة ورُموزها، وكُل المُشاركين فيها وعلى رأسهم بريغوجين الذي تجاوز في نظره كُل الخُطوط الحُمر، عندما دعا قيادة الجيش الروسي وجُنوده للعِصيان، والثورة، والانضِمام إلى قوّاته، والزّحف إلى موسكو لإطاحة النّظام ورئيسه.


ما يتعذّر علينا فهمه هو عدم اكتِشاف هذا التمرّد ونوايا قادته مُبكِرًا من قبل المُخابرات العسكريّة الروسيّة، والانخِداع بإنجازاتها “المسرحيّة” في شرق أوكرانيا، وخاصّةً في بخموت، فهذه مجموعة من المُرتزقة، هدفها ورئيسها المال والذّهب، وولاؤها لمن يدفع أكثر، فخطيئة استخباريّة كُبرى مِثل هذه تستحقّ الدّراسة، ومن ثمّ عقاب من ارتكبوها مهما كانت مناصبهم، أو قُربهم من الرئيس بوتين.

أمّا النقطة الأُخرى التي لا تقل خُطورةً فتتمثّل في التقدّم الكبير الذي حقّقته ميليشيا فاغنر، والسّيطرة على مدينة سيرخوف الروسيّة القريبة من الحُدود الأوكرانيّة، والقِيادة العسكريّة المركزيّة فيها، وخاصّةً مقرّ رئيس هيئة أركان الجيش الروسي، دُون مُقاومة، وبعد ذلك الزّحف باتّجاه موسكو العاصمة دُون أن تتعرّض هذه القوّات للقصف بالطّائرات، حسب بعض التّقارير الإخباريّة.

وقوف الولايات المتحدة الأمريكيّة ودُول أُخرى من حلف النّاتو خلف هذا الاختِراق العسكري الاستِخباري الكبير كان مُتوقّعًا لأنّه ربّما جاء ثمرة خطّة مدروسة بعنايةٍ جرى وضع فُصولها في الغُرف السّوداء المُظلمة، فمُنذ اليوم الأوّل لاقتِحام الجيش الروسي للحُدود الأوكرانيّة، كان الإعلام الأمريكي والأوروبي يتحدّث بقُوّةّ عن احتمالاتٍ كبيرةٍ بحُدوث انقِلابٍ عسكريّ يُطيح بالرئيس بوتين نظرًا لوجود انقِسامٍ في الجيش الروسي، ومُعارضة ضبّاط كِبار فيه لهذه الحرب، ومن غير المُستَبعد أن مِثل هذه الحملات الإعلاميّة كانت للتّغطية على عمليّة تجنيد سِريّة لجماعة فاغنر ورئيسها للقِيام بالانقِلاب الحالي.

فضح بريغوجين قائد فاغنر لأسرار روسيا المُتعلّقة بالحرب الأوكرانيّة وإسقاطه مروحيّة روسيّة، ومطالبه الاستفزازيّة بعزل وزير الدّفاع وقائد الجيش الروسي ورئيس أركانه، تُشكّل كلّها قمّة الوقاحة والاستِفزاز لدولةٍ عُظمى في حجم روسيا، فمن هو حتى يتجرّأ ويُقدّم مِثل هذه الشّروط المُهينة من رئيس الدّولة، ويفتعل هذه الأزمة، في ذروة حرب وجوديّة تُهدّد بلاده ووحدتها الترابيّة، وبَذْر بُذور فتنة الحرب الأهليّة بالتّالي، فإذا كانت كُل هذه السّلوكيّات لا تعني الخِيانة العُظمى.. فما هي الخِيانة إذن؟

انقلاب جماعة فاغنر التي تضمّ المُرتزقة، وخريجي السّجون من المُجرمين المُدانين يُشَكّل أكبر تَحَدٍّ للرئيس بوتين مُنذ تولّيه السّلطة عام 1999، والسّؤال الذي يطرح نفسه بقُوّةٍ هو كيفيّة تصدّيه له، والحيلولة دُون حُدوث انقسامٍ في الجيش، فقائد هذه الجماعة، أيّ بريغوجين، لا يُريد الإطاحة بقادة الجيش انتقامًا لقصفهم بعض قواعده في شرق أوكرانيا، وقتل المِئات من مُقاتليه، وإنّما إسقاط الرئيس بوتين ونظامه، والحُلول محلّه.

من حقّ بريغوجين أن يَحلُمَ بالسُّلطة، ولكن كُلّ الدّلائل والمُؤشّرات تُؤكّد أنّه من المُرجّح أن تفشل حركته الانقلابيّة هذه بأسرع ممّا توقّع، لأنّه لا يملك واحد على الألف من قُدرات الجيش الروسي، ثاني أقوى جيشٍ في العالم الذي يملك أكثر من أربعة ملايين جُندي، وآلاف الدبّابات والطّائرات الحديثة، التقليديّة أو المُسيّرة، علاوةً على مُؤسّسةٍ أمنيّةٍ مُتطوّرةٍ ومُسلّحةٍ جيّدًا، وأكثر من 6500 رأس نووي، بينما لا يزيد عدد مُرتزقته عن 25 ألف جُندي في أفضل الأحوال.

سيرغي شويغو وزير الدّفاع الروسي ربّما كان مُصيبًا عندما لم يرضخ لضُغوط قائد فاغنر لتزويد قوّاته بمعدّاتٍ ثقيلة، بعد مُشاركتها بفاعليّةٍ في القِتال للسّيطرة على مدينة بخموت شرق أوكرانيا، وإصداره قرار حظي بدعم بوتين، وكان وراء تفجير الأزمة، بوضع جميع قوّات كتائب المُرتزقة بِما فيها فاغنر تحت سيطرة الجيش ووزارة الدفاع الروسيّة اعتِبارًا من أوّل شهر تمّوز (يوليو) المُقبل، فلا بُدّ أنه كان لديه شُكوك في نوايا هذه الجماعات، وربّما معلومات أيضًا باحتِمالِ اختِراقها، أو مُعظمها، من قِبَل المُخابرات الغربيّة، والأمريكيّة تحديدًا.

يَصعُب علينا أن نتصوّر خُروج الرئيس بوتين مهزومًا من هذه الأزمة الخطيرة، وعلى أيدي جماعة من المُرتزقة، وفي ذروة الحرب الوجوديّة التي تعيشها روسيا في أوكرانيا مُنذ عام وأربعة أشهر، فلا تُوجد أيّ مؤشرات حول حُدوث انشِقاقات في الجيش، أو احتِجاجات شعبيّة داخليّة، وما حدث هو العكس، حيث حظي الرئيس بوتين بدعم رئيس الكنيسة الأرثوذكسيّة، وجميع قِيادات الجيش، وقادة جُمهوريّات الاتّحاد الروسي، وخاصّةً زعيم الشيشان رمضان قديروف، ورئيس روسيا البيضاء، والرئيس التركي الجار الوفي رجب طيّب أردوغان الذي لم يتردّد في إعلان دعمه علنًا ومُنذ اليوم الأوّل للأزَمة ردًّا لجميله لدعمه له أثناء الانقِلاب العسكري الذي أرادَ الإطاحة به عام 2016.

الرئيس بوتين وفي آخِرِ تصريحٍ له، بالصّوت والصّورة، قال اليوم إنّه مُستَعِدٌّ للتّسامح في كُل شيء إلّا الخِيانة، ممّا يعني أنّ حبْل المشنقة بات يقترب من عُنُق بريغوجين والعديد من قِياداته إذا ما فشل انقِلابه، وجرى اعتِقاله حيًّا.. واللُه أعلم.