بقلم —د. إسماعيل علي الشريف
“أياً كان حجمك.. سواء أتبعت المهادنة أو التجاسر أوالرقص.. فلا أمان للأميركان”.
قبل 34 عاماً صبيحة الثاني من أبريل 1990 صدم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين العالم بتصريحه المدوي الشهير آنذاك بأنه سيحرق نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية إذا ما أقدمت على مهاجمة العراق.. على الفور دقت في واشنطن ولندن ساعة العمل لإعادة ترتيب وضع المنطقة العربية رداً على ذلك التهديد والصوت غير المعهود في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.. تطورت الأحداث بالمنطقة وتوترت سريعاً.. وبعدها بأربعة أشهر صبيحة الثاني من أغسطس إجتاح الجيش العراقي دولة الكويت وسيطر عليها كاملة في ظرف ساعات.. ويستحضر العرب خوامد (داحس والغبراء) وتتعزز الإصطفافات المقيتة وتدخل المنطقة العربية منذ ذلك الحين في غياهب الفوضى والنكوص.. وتبدأ رسمياً الولايات المتحدة وحلفائها إعادة رسم وتخريط المنطقة (جيوسياسيا) وإطلاق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
لم ينتبه العراق حينها إلى الفخ والشِراك الذي أُستُدرج إليه حينما أوهمت السفيرة الأميركية (جلاسبي) في بغداد حينها النظام العراقي (الحليف والصديق) أنها وحكومتها قد غضت النظر عن ذلك الإجتياح اللعين.. لكن الوقائع أثبتت أن التحشيد العسكري الأميركي السريع وغير المسبوق (جواً وبحراً وجواً) لإدارة جورج بوش وحرب تحرير الكويت لم تكن إلا مراسم قص شريط مشروع إعادة بناء الشرق الأوسط بتفاصيل أميركية خالصة.. ومخرجاته تفكيك الجيوش وتفتيت السلم الأهلي وتحويل الدويلات الهشة إلى أسواق استهلاكية.. وهو ما تعيشه المنطقة الآن.
وفي صبيحة التاسع من أبريل شؤم آخر (2003) هوى تمثال الرئيس صدام حسين في إحدى ساحات بغداد بعد أن إعتلاه الجنود الأميركان وسط هتافات جموع الشامتون لتصل الرسالة لكل جبابرة الأنظمة العربية بأن مراحل مشروع الشرق الأوسط تسير وفق الجدولة الأميريكية.. وأن لكل موقف وكلمة ثمن في سوق السياسة الأميركية.. وأن تهديد صدام حسين للكيان الإسرائيلي ووصول الصواريخ العراقية لتل أبيب هي محظورات وخطوط حمراء واضحة المعالم يدفع كل من يتجاوزها الدماء والأرواح والأموال والسيادة ثمناً لها.
وفي ليل الحادي والعشرين من ديسمبر من عام 1988 هوت طائرة ركاب أميركية بمئتين وسبعين راكباً فوق قرية لوكيربي الأسكتلندية.. وبعد مداولات أميركية بريطانية يوجه الإتهام منتصف نوفمبر 1991 للنظام السياسي الليبي آنذاك بالمسئولية عن إسقاط الطائرة المدنية.. وتدخل ليبيا في قصة درامية طويلة استنفذت قرابة عقد من الزمان انتهت بتسوية (خديعة) ظاهرها تسليم أسلحة الدمار الشامل مقابل رفع أسم ليبيا من قائمة الإرهاب وعودتها للمجتمع الدولي.. لكنها كانت في الحقيقة أشبه باحتضان أفعى (الكوبرا) لضحيتها.. حيث شعر النظام حينها (بدفء) التسامح الغربي الذي ما فتئ غرز سكاكينه في جسد ليبيا لتنفث (هيلاري كلينتون) سموم الإنتقام في آخر أوردة نظامها السياسي على ضواحي سرت عام 2011.
لم تشفع المهادنة ولا التجاسر ولا الرقص مع الأميركان.. ظلت الخديعة والإنتقامية تسكن الإدارات الأميركية المتعاقبة.. من يتجرأ على المساس بالخطوط الأميركية لأمن وإستقرار منطقة الشرق الأوسط وفق المواصفات الأمريكية تطاله نيرانهم ولو بعد حين.. لا مجال للثقة والعواطف والتنازلات عند الإقتراب من المجال الأميركي.
فاتورة حساب مشهد السفير الأميركي مضرجاً بدمائه في بنغازي صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2012 لم تقفل بعد.. جاءت (ستيفاني ويليامز) عبر بوابة البعثة الأممية (UNSMIL) وخدرت الجميع وذهبت حاملة معها (كاتلوج) عن مواصفات وسلوكيات كل شخوص المرحلة السياسية (النتنة).. لتجد (ستيفاني خوري) كراس تحضير المرحلة (الأميركية) القادمة جاهز للعمل.. جولات المبعوث الأميركي الخاص (نورلاند) بين (عاصمتي) البلد طرابلس وبنغازي والقوى المتنفذة بهما والتوابع من المدن والكيانات والشخوص .. تظهر حرص وإقتدار منقطع النظير لهذا النورلاند على خلخلة بنيان ليبيا غير المرصوص و(خنق) كل محاولة محلية ووطنية لاستنشاق شيء من أكسجين التعقل والتراجع عن الإنقسام والإحتراب والعداء.
البلاهة والرقص مجدداً مع الأمريكان على مسرح غرب ليبيا تسير سراً وبياناً.. وما التسليم المجاني للمواطن المسن (المريمي) كوديعة مقابل إستمرار السلطة.. وكشف مستور وودائع وعورات المصرف المركزي لـ(نورلاند).. والمحاولات الغبية لتشكيل قوات محلية لمجابهة التغلغل الروسي في صورة نادرة لإنشاء مرتزقة من أبناء البلد.. وتسليم مفاتيح تأمين إقليم طرابلس للشركات الأميركية الأمنية لن يكون إلا مُسكِن ومُخدِر قبيل الجراحة المقبلة.. ولن يشفِ للإدارة الأمريكية غليل الإنتقام وسلوك العربدة من بلد لا زال حاضراً حتى في نشيد البحرية الأميركي