الساعات الحاسمة.. طرابلس تحبس أنفاسها



يحبس سكان العاصمة طرابلس، وعموم الليبيين، أنفاسهم وهم يتابعون نذر التصعيد العسكري بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة وحكومة مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا..

تتالت بيانات باشاغا خلال اليومين الأخيرين بما يوحي بأن تفادي الصدام بين المعسكرين بات مستبعدا أكثر من أي وقت مضى.. فحين يصف باشاغا بياناته بـأنها "بيان وبلاغ"، وأنها "إبراء للذمة وإقامة للحجة"، يصبح من حق المتابعين الذهاب إلى أقصى درجات التأويل، واعتبار الأمر إعلانا لساعة الصفر..

سبق لباشاغا أن دخل طرابلس ووصل طريق السكة، قبل أن تجبره الكتائب الموالية للدبيبة على المغادرة واتخاذ سرت مقرا لحكومته، وسط حديث عن تدخل القوات الخاصة التركية لتأمين الانسحاب وترتيب ما يشبه التفاهم الضمني بين الرجلين على احترام "الخطوط الحمراء" وعلى رأسها الصدام العسكري في العاصمة..

  

لا يبدو أن المشهد الليبي المتحرك يستقر على تفاهمات ولا على توافقات معلنة ولا ضمنية.. وفي سجل صراع المتصارعين أكثر من مثال؛ ومؤتمر غدامس 2019 ليس ببعيد.. فحين كانت الأنظار كلها متجهة هناك بانتظار وصول الوفود من طرابلس وبنغازي ومصراتة والزاوية وسرت وسبها وغيرها، للتوافق على حلول تخرج البلاد من مختنقاتها، كانت قوات حفتر تضع التحضيرات الأخيرة للزحف على طرابلس.. وفي التاريخ الذي كان مقررا لانعقاد مؤتمر الوفاق الغدامسي كانت طلائع "القيادة العامة" في غريان وترهونة وبوابة 27..

 

كل من اعتقد، في وقت ما، أن الأمور استتبت وفق تفاهم ضمني مفاده "أنت في سرت، وأنا في طرابلس" لم يكن يدرك تعقيدات المشهد الليبي الذي يتحكم الخارج الإقليمي والدولي بمعظم خيوطه..

الأغلبية العظمى من الليبيين لا ترغب في إعادة مشاهدة جحافل السيارات المسلحة والدبابات والطيران المسير والحربي في محيط العاصمة وسمائها، وكل الخيرين في العالم لا يتمنون إراقة قطرة دم واحدة في ليبيا، غير أن كل المؤشرات تذهب عكس هذه الأمنيات وتنبئ بأن الصدام آت ما لم تدرك الفرقاء استفاقة أخيرة؛ وهي استفاقة تبدو مستبعدة في بيانات باشاغا المتتالية خلال اليومين الأخيرين..

 

في مثل المختنق الليبي لا تحسم الأمور إلا بإحدى فرضيتين؛ إما الجنوح إلى حوار يفضي إلى تفاهم ووفاق، وإما حسم عسكري بيّن..

الخيار الأول ممكن لو توفرت الإرادة الوطنية، غير أن الإرادة تبدو رهينة حسابات إقليمية أكبر من الدبيبة وباشاغا، ناهيك عن هوس مرضي بالنفوذ والسلطة والمغانم يحكم الفرقاء المتصارعين ويصم آذانهم عن كل نداء..

الخيار الثاني؛ وهو الخيار المطروح حاليا، جرّب مرة وراء مرة، وثبت فشله.. "الكرامة" و"فجر ليبيا"، وهجوم حفتر على طرابلس؛ كلها أمثلة على أن الحسم العسكري، في المشهد الليبي المتخم بالسلاح والمسلحين، مجرد أضغاث أحلام..

من خلال استشراف موضوعي للمشهد، يبدو أن باشاغا، ومن معه داخليا وإقليميا، مصمم على إعادة محاولة دخول العاصمة بقوة السلاح، كما يبدو أن الدبيبة، ومن معه، مصمم على الحفاظ على موقعه بقوة السلاح أيضا..

ومن خلال استشراف موضوعي يبدو أن الاقتراب من العاصمة لن يكون يسيرا كما كان في هجوم 2019، إلا إذا أمكن لباشاغا تحويل ولاء كبرى الكتائب العسكرية في طرابلس، وهو أمر غير مستحيل ولكنه مستبعد جدا.. لن تكون السيطرة على العاصمة، حسب جل المؤشرات، أمرا سهلا، ولكن الحرب ستلقي بظلال قاتمة على حياة المدنيين ومعاشهم، وسيكون للقوى الإقليمية دورها في مسار الأحداث..

حتى الآن يبدو أن مصر لا تمانع في تحرك باشاغا كما لم تمانع، سابقا، في تحرك حفتر.. وحتى الآن لم تعلن تركيا، التي كان لطيرانها المسير الدور الرئيس في فشل هجوم 2019، موقفا حاسما مما يمكن أن يجري في الساعات القادمة على تخوم العاصمة، رغم أن الفرضية الأقرب أنها لن تكون في وضع المتفرج..

 

الحقيقة الوحيدة في كل ما يمكن أن يحدث هي تهافت الحل العسكري وفشله.. قد يطول أمد العمليات العسكرية أو يقصر ولكنها لن تكون حلا لمشاكل ليبيا المتناسلة بقدر ما ستكون عاملا جديدا للفرقة والانقسام والتشظي وزرع الأحقاد بين أبناء الوطن الواحد..