السياسي الفرنسي تاليران.. الثعلب الأعرج
تاليران رجل دولة فرنسي مشهور بإنجازاته الدبلوماسية خلال حكم نابليون الأول، وهو واحد من الشخصيات التي ثارت حولها الشكوك في التاريخ، إذ يرجع أصله إلى أسرة عريقة معروفة بخدماتها العسكرية وربما كان من الممكن أن ينهج نهج أسرته لو لم تنخلع قدمه إثر سقطة وهو في الرابعة من عمره وكان عليه أن يشق حياته بقدم عرجاء لكنه كان مصمما على اجتياز كل عقبة تواجهه. اسمه شارل موريش دوتاليران، ولد عام 1754 في باريس، أصيب بحادثة سببت له عرجا شديدا. كان من أسرة غنية راقية، تخرج من جامعة السوربون وكان متخصصا في دراسة الدين النصراني، ثم عين كاهنا ثم رئيسا للقساوسة ثم نائبا عاما من رجال الدين، ثم سكرتيرا مهما، ثم أسقفا لمدينة أوتان. وبعد سقوط سجن الباستيل عام 1789 دخل تاليران معترك السياسة وعين عضوا في لجنة الدستور، ثم عين في عام 1792 سفيرا في لندن ثم وزيرا للخارجية عام 1796، ثم عينه نابليون عام 1818 كبير الأمناء ثم كبير الناخبين. كان يلقب تاليران بالشيطان الأعرج.
ومَن غير السياسي الفرنسي شارل تاليران ثعلب أعرج في دنيا السياسة والدبلوماسية؟ كان أعرج حقيقيا، وثعلبا مجازيا بانتهازيته.. خدم الملكية، ثم انقلب عليهم بعد سقوطهم، وخدم نابليون، ثم انقلب عليه بعد سقوطه، وعاد لخدمة من خلفه.. سألوه عن تقلبه وعدم إخلاصه، فأجاب: "كلا، ولكن إخلاصي بقي دائما لفرنسا".
ولا ندري إن كان قد كذب في ذلك أيضا أم لا. عيّنه نابليون سفيرا وبعثه بهذه الصفة رئيسا للوفد الفرنسي لخطبة ابنة قيصر روسيا لنابليون. ألقى الكلمة الجميلة بالمناسبة يشيد فيها برئيسه الإمبراطور، ولكنه بعد ذلك بقليل وأثناء العشاء انتهز فرصة وهمس في أذن القيصر وقال له: "خذ نصيحتي ولا تزوج ابنتك لهذا الرجل، فأيامه معدودة". ويظهر أن نابليون اكتشف ذلك بعد أن اعتذر القيصر فعلا عن عدم تزويج ابنته له، فانهال عليه بالشتائم أمام الملأ.. وصف ذلك أحد الحاضرين فقال: "كان وجهه كالبطيخة الباردة، فيما كان قفاه يتلقى سيلا من الرفسات".
العجيب في أمره أن حياته لم تنتهِ على المقصلة.. كيف نجا رغم كل ما فعل؟ لقد نجا بظرفه وحلاوة لسانه.. فما من شيء يطرب له الغربيون ويغفرون لصاحبه أكثر من الظرف والفكاهة، وهو في الحقيقة ما تميز به تاليران، وكتب الأدب السياسي الفرنسي تغص بطرائفه وأقواله..
التقت به امرأة في عينيها حول وقصدت أن تسخر منه بالإشارة إلى مشيته على رجله العرجاء، فقالت له: "كيف ماشية أمورك؟"، فأجابها على الفور: "مثل ما أنت شايفة!".
وفي مناسبة أخرى، جمعته الظروف بالحسناء مدام ريكاميه، وبالمدام دي ستيل المعروفة بغزارة ثقافتها ومعرفتها التي كانت تزج بها في أي مناسبة.. لاحظت دي ستيل أنه كان يغازل زميلتها الحسناء، فقالت له: "قل لي يا مسيو تاليران؛ إذا كنا في سفينة وغرقت فمن منا ستبادر لإنقاذها وتترك الأخرى؟". فأجابها: "من دون شك سأنقذ المدام ريكاميه.. أما أنت فتعرفين كل شيء، ولا أشك في أنك ستعرفين كيف تسبحين وتنقذين نفسك"!
جمعت طرائفه ونشرت في مطبوعات كثيرة وترجمت، وكذا كان الأمر مع أقواله وحكمياته. وما أجدر بي أن أنهي هذه المقالة بطائفة منها، علما بأن كثيرا منها أصبح من الحكم التي تتردد على ألسنة الساسة ورؤساء الحكومات:
-"إنني أخاف من 100 خروف يقودها أسد أكثر مما أخاف من 100 أسد يقودها خروف".
- "أي إنسان ذكي يرتكب جريمة؟ الجرائم يرتكبها قصار العقول".
- "الحرب شيء خطير جدا.. لا يمكن ترك أمرها بيد قادة الجيش".
- "لتكون دبلوماسيا ناجحا، عليك ألا تتحمس لأي شيء".