وطن قومي لليهود (1 من 2) … !!!
في عام 1825 بينما كانت الولايات المتحدة تحتفل بالذكرى الخمسين لإستقلالها … كان اليهودي مردخاي مانويل نوح يعلن في جزيرة غراند آيلاند في نهر نياغرا في أمريكا مشروعا لاقامة كيان يهودي على هذا الجزيرة يجمع يهود العالم من الشتات … ففي شهر سبتمبر من نفس العام أقام نصبا تذكاريا في الجزيرة كتب عليه "آرارات ، ملجأ اليهود "… نسبة إلى جبل أرارات، مكان رسو سفينة نوح بحسب الرواية التوراتية.… وأعلن مردخاي في خطابه عن استعادة اليهود إيمانهم بأنهم سيعودون ويعيدون بناء وطنهم القديم، داعياً إلى أخذ زمام المبادرة في هذا المسعى.
كانت هذه المحاولة ضمن العديد من المحاولات لخلق كيان سياسي ليهود العالم هروبا من الاضطهاد والقمع الذي كانوا يعانونه في اوروبا … كانت أوروبا مشغولة بالمسألة اليهودية وتبحث عن حلول لها … فحاولت بريطانيا في وقت من الاوقات تسويق أوغندا كوطن يجمع اليهود. كان برنامج أوغندا البريطاني عبارة عن خطة لإعطاء جزء من شرق إفريقيا البريطانية للشعب اليهودي كوطن.
تم تقديم العرض لأول مرة من قبل وزير الاستعمار البريطاني جوزيف تشامبرلين إلى المجموعة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل في عام 1903.…عرض وقتها 5000 ميل مربع (13000 كيلومتر مربع) من هضبة ماو في ما يعرف اليوم بكينيا. كان العرض رداً على المذابح ضد اليهود في روسيا. … تم طرح الفكرة على المؤتمر الصهيوني للمنظمة الصهيونية العالمية في اجتماعه السادس عام 1903 في بازل، وتلاه نقاش حاد.… وتم تمرير قرار بالنظر في هذه الخطة.
في العام التالي، تم إرسال وفد من ثلاثة رجال لتفقد الهضبة ذات المناخ المعتدل مما يجعلها مناسبة للاستيطان الأوروبي.… ومع ذلك، وجد المراقبون أرضاً خطرة مليئة بالأسود والمخلوقات الأخرى. علاوةً على ذلك، كان يسكنها عدد كبير من الماساي الذين لم يبدوا على الإطلاق متقبلين لتدفق الأشخاص القادمين من أوروبا.
بعد تلقي هذا التقرير، قرر الكونغرس في عام 1905 رفض العرض البريطاني، واعتبر بعض اليهود المعترضين على الرفض أنه قرار خاطئ، فشكلوا المنظمة اليهودية الإقليمية بهدف إقامة دولة يهودية في أي مكان.…
حاول الاتحاد السوفياتي الذي ورث المشكلة اليهودية من قياصرة روسيا ان يقدم حلا تقدميا لهذه المشكلة … ففي 28 مارس 1928، أصدرت هيئة رئاسة اللجنة التنفيذية العامة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية مرسوماً "بشأن إنشاء وحدة إقليمية إدارية يهودية بالقرب من نهر أمور في الشرق الأقصى لتوطين اليهود العاملين".
كانت الفكرة هي إنشاء "صهيونية سوفيتية" جديدة، حيث يمكن تطوير ثقافة يهودية بروليتارية تعتمد اليديشية بدلاً من العبرية، ويكون فيها الأدب والفنون الاشتراكية الجديدة محل الدين باعتبارها وسائل التعبير الأساسي للثقافة.
ورغم حملات الدعاية والترغيب فقد فشلت الجهود لكون المنطقة التي اختارها ستالين كانت قاسية مليئة بالمستنقعات قرب الحدود مع الصين ولاحتدام الصراعات السياسية داخل الاتحاد السوفياتي .… فذهبت فكرة إقامة إقليم يهودي يتمتع بالحكم الذاتي في الاتحاد السوفييتي أدراج الرياح.
أما المانيا النازية فقد روجت وهو في عز مجدها لخطة سبق وان ناقشتها حكومات كل من بريطانيا وفرنسا وبولندا وتقضي بارسال اليهود الى مدغشقر … وفي مايو 1940، أعلن هاينريش هيملر "آمل أن يتم إخماد مفهوم اليهود تماماً من خلال إمكانية هجرة أعداد كبيرة من كل اليهود إلى إفريقيا أو أي مستعمرة أخرى". وكانت المانيا في بدايات الحرب تأمل ان فوزها على بريطانيا سيمكنها من تنفيذ هذه الخطة وربما حتى استخدمت الاسطول البريطاني في نقل اليهود … الى مدغشقر. غير ان تغير اتجاهات الحرب وخسارة المانيا لها وضع حدا لهذه الخطة …
وكان لأستراليا هي الأخرى نصيب من البحث عن حل للمشكلة اليهودية خارج أوروبا … فقد كانت محل اهتمام الدكتور إسحاق شتاينبرغ، وهو سياسي يهودي روسي اقترح توطين اليهود جنوب غرب تسمانيا.
حيث كان رئيس وزراء تسمانيا روبرت كوسغروف متقبلاً للفكرة وجال في المنطقة عام 1941.لكن الدكتور شتاينبيرغ تعرّض لأزمة صحية أثناء تجواله في المنطقة أودت بحياته نتيجة التهاب حاد، فتوفي وماتت معه الفكرة من أساسها.
كان اقليم برقة يمثل احد مطامع الحركة الصهيونية الاستيطانية فقد بادر هرتزل عام 1904 بتقديم اقتراح إلى ملك إيطاليا، يرمي إلى تهجير عدد من يهود شرق أوربا إلى برقة لكي يقيموا فيها حكماً ذاتياً لكن الملك الإيطالي آثر عدم الاستجابة للاقتراح خشية افتضاح أمر الأطماع الإيطالية في ليبيا وما يمكن أن يسببه هذا من مشاكل مع بريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية، فرد على هرتزل بما يفيد عدم قدرة إيطاليا على تقديم الدعم للمنظمة الصهيونية في هذا الصدد، واحتج بأن "طرابلس الغرب وطن للآخرين" ولا سلطان لإيطاليا عليها.
لكن المحاولات الصهيونية لم تتوقف …ففي عام 1906 أوفدت المنظمة لجنة من الخبراء الصهاينة إلى ليبيا لبحث إمكانية توطين اليهود ببرقة . وعادت اللجنة بانطباعات إيجابية ضمنتها تقريرها ، وفي عام 1908، أوفدت بعثة أخرى من الخبراء الذين امضوا ثلاثة أسابيع في برقة أجروا خلالها أبحاثاً مكثفة تركزت على أوضاع المنطقة ومواردها المائية وفرص إقامة مشاريع زراعية بها. وأدرجت البعثة خلاصة بحوثها تلك في تقرير صدر في مطلع عام 1909 وأُطلق عليه اسم الكتاب الأزرق.
غير أن الأوضاع العالمية آنذاك سارت على غير ما كان يشتهي واضعو المشروع. فقد شهد عام 1909 وقوع انقلاب في الدولة العثمانية أطاح بالسلطان عبد الحميد الثاني ودفع بالدولة إلى دوامة من الصراعات والمشاكل الداخلية الحادة التي شغلتها عن الاهتمام بمشروع الاستيطان اليهودي، فضلاً عن وفاة والي ليبيا العثماني الذي كان من مؤيدي المشروع. وزاد الموقف تعقيداً إقدام إيطاليا عام 1911 على غزو ليبيا واحتلالها، ولم يلبث العالم بأسره أن اندفع في غمار الحرب العالمية الأولى، وكان من شأن هذا كله أن يؤدي إلى القضاء على المشروع في مهده.
وهكذا فشلت كل محاولات الدول الأوروبية لخلق كيان سياسي لليهود بعيدا عن أوروبا … ولم يتبق سوى فكرة واحدة وهي توطينهم في فلسطين … وهي فكرة يكاد يستحيل تنفيذها لأنها كانت عامرة بأهلها الفلسطينيين … ولم يكن لها ان تتحقق لولا تبدل المشهد السياسي العالمي وبروز تحالف بين الحركة اليهودية القومية (الصهيونية) … والاستعمار البريطاني … يغذي هذا التحالف الرغبة في وراثة الدولة العثمانية … ويحفزه بريق الذهب الأسود (النفط) … أما كيف تحقق ذلك فهو موضوع مقال قادم.