الخاصرة الرخوة جنوب ليبيا: أبعاد ومدلولات ظاهرة الإرهاب العابر للحدود  

بقلم الدكتور يوسف شاكير

th.jpg





تكملة بشان الجنوب الليبى:

أفرزت تلك الفوضى ما صاحبتها من سيولة، بيئة مواتية لظهور ثلاث مجموعات من القوى سعت لملء فراغ القوى بالجنوب الليبي: عصابات التهريب؛ حركات التمرد السياسي؛ والتنظيمات الجهادية. مثلت معًا تهديدات أمنية متزايدة للمجالين الداخلي والخارجي في آن واحد. وتلك القوى لم تسع لسد فراغ القوى الناشئ بالجنوب فحسب، وإنما أيضًا إعادة بناء منظومة تفاعلاته بشقيها التعاوني والصراعي، على نحو يخدم أهدافها مستفيدة من تعدد مستويات الصراع سواء ما بين قبائل الجنوب ذاتها بشقيها العربي والإفريقي التي كان هاجسي،السيطرة على مسالك التهريب وحسم التركيبية السكانية محفزات كبيرة على إثارته من آن لآخر، أو ما بين صراع النفوذ والمكانة ما بين الشرق والغرب حيث كان الجنوب حيز إستراتيجي لممارسة مجالات هذا الصراع، وخلق ولاءات موالية لهذا الطرف أو ذلك ما صعد من وتيرة العنف المادي بين سكان الجنوب.

قبل الوقوف على ثقل تلك المجموعات الثلاثة، ونوعية التهديدات الآنية والكامنة التي تمثلها، يجب رصد محددات الالتقاء والاختلاف فيما بينها في أربعة محددات رئيسة:

أولهمــا: مصـادر التمـويل. تمثل الثروات الطبيعية بالجنوب وتحديدًا النفط، بالإضافة لعمليات التهريب واسعة النطاق، بما فيها كافة أشكال التجارة بالبشر مصادر رئيسة لتوفير مصادر التمويل لتلك المجموعات بدرجات متفاوتة، ومستفيدة مما يمكن توصيفه بــ "اقتصاد التحويلات العابر للدول"الذي يقوم على تحويل العمال والمهاجرين وتهريب البضائع بين الدول. المستفيد الأكبر هذا الاقتصاد،عصابات التهريب المحلية التي يعمل فيها أبناء قبائل الجنوب، تحديدًا الطوارق والتبو، فهؤلاء لم ينخرطوا ضمن ميليشيا حراس المنشآت النفطية التابعة لإبراهيم الجضران فحسب، وإنما أيضًا مارس الكثير منهم عمليات الخطف والابتزاز للحصول على المال أيضًا. أما حركات التمرد السياسي والتنظيمات الجهادية فإنها تعتمد بشكل أكبر على التمويل القادم لها من الخارج الذي يُعد السودان أبرز معابره، كما أنها تستفيد بشكل ما من اقتصاد التحويلات بعد تحول الأمن إلى سلعة تجارة. أضف لذلك استفادة حركات التمرد من عملية شراء الولاءات سوا من جانب طرفي النزاع في الشمال أو حتى من الدول الأوروبية وتحديدًا فرنسا، إيطاليا وقطر. 

ثانيهــا: العـقيدة الدينيـة. فالمكون الإسلامي لا يشكل هيمنة عقائدية داخل الجنوب فحسب، حيث السواد الأعظم من أبنائه بقبائلهم العربية والإفريقية ينتمون للدين الإسلامي، وإنما يُعد أيضًا محفز نشط داخل القبائل للتجنيد والتعبئة، في ظلشيوع ندرة فرص العمل، والصراع على الموارد. وهنا تبرز الجماعات الجهادية بوصفها الأكثر استفادة من هذا المحدد، لكون حركات التمرد عقيدتها بالأساس سياسية ــ عرقية أكثر منها دينية. فيما تتلاشى تلك العقيدة لدى عصابات التهريب تمامًا التي تنسج روابطها على المنافع المادية.

ثالثهــا: المـلاذات الآمـنـة. استفادت تلك المجموعات الثلاث من السيولة السياسية ــ الأمنية في إيجاد ملاذات آمنة لها داخل مدن الجنوب وجباله. وإذا كانت عصابات التهريب مستفيدة من هذا المحدد بشكل تلقائي  لكونها على دراية بالطرق ومسالك التهريب متعددة الاتجاهات، سواء تجاه الشمال ــ البشر، أو تجاه الجنوب ــ البضائع ومصادر الطاقة، فإن حركات التمرد والتنظيمات الجهادية طورت بدورها أيضًا ملاذات آمنة لها داخل مدن الجنوب استطاعت من خلالها إقامة معسكرات تدريب وتجنيد على درجة كبيرة من الكفاءة، وقادرة على استيعاب موجات الهجرة سواء من جانب المجاهدين الفارين من الشمال عقب سقوط مدينتي درنة وسرت، أو الأبعد في سوريا والعراق شرقًا وجنوب الجزائر وشمال مالي غربًا، أو استيعاب المقاتلين من التبو والطوارق الذين حاربوا في جبهات خارجية مثل شمال مالي ــ الطوارق أو تشاد ــ التبو.

رابعهــا: القيـادة والسـيطرة. طورت تلك المجموعات من دون استثناء أنظمة قيادة وسيطرة عالية الكفاءة من قياديين لهم ثقلهم، استطاعوا تطوير علاقات تبادل مصالح ومنفعة سواء مع بعضهم البعض أو مع قادة السكان المحليين، ما مكنهم من الاستفادة من وفرات المساحة الجغرافية في التنقل الآمن من ناحية، وتجنب الدخول في أتون الصراع المحلي بالجنوب، بحيث باتوا خارج معارك الخصوم من ناحية أخرى.ومن ثم كانوا في أحيان كثيرة مستفيدين في خلخلة البنية الأمنية والاجتماعية، وتداعي علاقات التحالفوالوئام التي سادت مدن الجنوب بعد 17 فبراير استمرت لمدى زمني قصير جدًا لم يدوم سوى أقل من عام، بعدما تفجرت التناقضات العرقية والمصلحية بين قبائل الجنوب، وانهارت معها كافة المواثيق وهرميات النفوذ غير المعلنة بدءًا من نهاية عام 2011، وحتى الآن وحدث شرخ وتمزق عميقين لحقا بالنسيج الاجتماعي بالجنوب بسبب صراعات القبائل والمدن البينية حول النفوذ والسيطرة على مسالك وآليات الاقتصاد العابر، صراعات فشلت سلطتا الشمال في احتوائها سياسيًا وعسكريًا، بل كان تداخلهما معمق لتلك الصراعات بشكل كبير.

وفرت تلك المحددات مجتمعة، بيئة ملائمة وآمنة، جعلت الجنوب مقصد جغرافي للقوى غير النظامية، ومنصة آمنة يمكن الانتقال منها نحو أهدافها الخارجية. ولذا بدأت تلك المجوعات الثلاث وتحديدًا التنظيمات الجهادية، وجماعات التمرد السياسي في تطوير ملاذات آمنة لإعادة تجميع عناصرها وبناء إستراتيجيات جديدة للمواجهة مع خصومها وأعدائها سواء دول الجوار ــ حالة حركات التمرد السياسي، أو النظم العربية والغرب ــ حالة التنظيمات الجهادية.

كما زاد من حدة تلك المحددات أيضًا، قدرة تلك المجموعات الثلاث من القوى غير النظامية على تطوير شبكة عمالة سياسية داخلية، مكنتها بدرجة كبيرة من تحقيق ثلاثة غايات رئيسة، تبدو أهميتها ليس في رصد وجود وتحرك تلك المجموعات على الأرض فحسب، وإنما الأهم أيضًا الصعوبات التي تكتنف مساعي إخراجها من الجنوب ومن ثم مستقبلها السياسي في الخاصرة الرخوة الليبية. فهناك من ناحية أولى، قدرتها المتدرجة على تطوير مصادر تهديد وأنواع متعددة من الإرهاب. ومن ناحية ثانية، القدرة على توفير ملاذات آمنة بالجنوب، وتشكل نقاط ساخنة للتدريب واستقطاب وجذب مؤيدين جدد أو الفرارين من مناطق جغرافية أخرى. ومن ناحية أخيرة، السهولة النسبية التي تمكن تلك الجماعات من تجديد مواردها المالية والتسليحية.   

إزاء القواسم والتباينات السابقة، طورت تلك المجموعات الثلاث نوعية خاصة ومتعددة من التهديدات الأمنية " الإرهاب"بمستوياتها الداخلية والإقليمية والدولية،وبات سمة لصيقة بها. ولذا فإن إطلاق سمات الإرهاب على تلك التهديدات ووضعها في سلة واحدة، من حيث مصادر التهديد وتطوير آليات المواجهة، عملية يكتنفها قدرًا كبيرًا من سوء التقدير والإدراكالسياسي، ومن ثم إخفاق متوقع في إدارة ملف تلك الظاهرة الخطيرة، التي باتت تمثل هاجس وقلق إستراتيجي متعاظم للجميع.

فقد استفاد هذا النوع من الإرهاب من وجود مسببات بنيوية للصراع الداخلي بالجنوب، حيث تصدع غير مسبوق في عمليات حفظ الأمن الداخلي بسبب عدم وجود مؤسسات أمنية قوية ووطنية تابعة للدولة، بعدما حلت محلها ميليشيات متصارعة على النفوذ والمال من ناحية، وغياب اقتصاد محلي مجدٍ وقادر على تلبية حاجة أبناء الجنوب من فرص العمل والتطور التنموي بالرغم من وجود مصادر هائلة للثروة من ناحية ثانية، وجود حدود ذائبة وخارج السيطرة مع دول الجوار الجغرافي، مصحوبة بتدخلات متزايدة سواء كانت ليبية المنشأ ــ الشمال أو من دول الجوار الجغرافي  مجتمعة من ناحية أخيرة.فهذه التحولات وجدت بيئة مواتية للتنافس والصراع بعد انهيار كافة أنماط التفاعلات التعاونية التي نشأت خلال انتقاضه فبراير، وعدم وجود قوة قادرة على فرض سيطرتها على الجنوب.

ولذا كان من الضروري بل من المحتم فصل مصادر التهديد التي تمثلها كل مجموعة من تلك المجموعات الثلاث، من أجل تحديد أبعادها الكاملة في صورة شاملة، تساعد على بناء أي إستراتيجية لمواجهة نوعية الإرهاب الذي تمثله داخل ليبيا وخارجها.

1ــ إرهـاب عصـابات الجريمـة المنظمـة

يُعد إرهاب تلك المجموعة قاصرًا على الشق الإنساني، وفي أدنى مستوياته، بسبب ما تمثله عمليات الاتجاربالبشر من مآسي حقيقية للعالم، تحديدًا لكونها أعادت إنتاج مفاهيم ولت من الذاكرة الإنسانية منذ عقود، مثل الاستعباد والنخاسة(3). إذ تشكل معسكرات تجميع المهاجرين سواء بالجنوب أو الشمال معاناة حقيقية، واحد المشاهد المظلمة للواقع الليبي، من حيث ظروف المعيشة أو التنقل وقيام المهربين باحتجاز جوازات سفر هؤلاء المهاجرين.

وانتشار تلك العصابات غير محدد نظرًا لطبيعة عملها العابرة للمكان، إلا أن مدينتي سبها ومرزق تعدا مركزًا محوريًا في أنشطة تلك العصابات،فالأولى عاصمة الجنوب مركز حيوي في تفاعلاته وشبكات طرقه الداخلية، والثانية كانت مركز إشعاع تاريخي للتجارة بالبشر عبر العصور. إلا أن الجانب الإرهابي حسب توصيفنا السابق، يكمن في محددين رئيسيين:

أولهمــا: صراع القبائل الجنوبية للسيطرة على الاقتصاد العابر. فالكل المجموعات السكانية بالجنوب، أسست لنفسها ميليشيات مسلحة، عرف أغلبها باسم كل منطقة أو مدينة. فعلى سبيل المثال شكلت مجموعة التبو "أكبر المجموعات الإفريقية"من حيث العدد  كتائب عسكرية مثل:كتيبة درع الصحراء في مرزق، كتيبة الكفرة؛ كتيبة شهداء أم الأرانب، كما أقاموا العديد من نقاط التفتيش عبر المدن، وعلى الحدود مع تشاد والنيجر، تحديدًا الكتيبة  25 لحرس الحدود، التي دعمتها حكومة طرابلس من أجل مراقبة الحدود الجنوبية. ويُعد أبنائها أكبر المستفيدين من دينامية وأنشطة هذا الاقتصاد، بعد قيام الجزائر بإغلاق حدودها مع ليبيا بسبب التهديدات الأمنية، وعلميات التهريب، ما حول مسالك وطرق التهريب إلى تشاد والنيجر والسودان حيث مناطق التبو، وخروج قبيلة الطوارق في أنشطة هذا الاقتصاد باستثناء محاولات التهريب عبر النيجر وتشاد انطلاقًا من أوباري وغات(4).

إلا أنه توجد مجموعة صغيرة من قبائل الطوارق تعمل علي تأمين خط تهريب المخدرات وتحديدا الحشيش.ومجموعة أخري تتواجد جهة ابوجي والتي استخدمتها من قبل  القوات التشادية ضد أزاواد مالي بدعم فرنسي، وجود تلك العناصر بهذه المنطقة أتى بناءًا علي اتفاق مع القوات الفرنسية الموجودة في قاعدة مادما علي الحدود النيجرية، ويعتبر هؤلاء خط الدفاع الأول عن هذه القاعدة العسكرية، كما أن هناك أيضًا مجموعات أخرى من الطوارق تتحرك من منطقة أم الحمام بالقرب من مشروع مكنوسة والأخرىبالقرب من مدينة مرزق(5).

كما تستفيد أيضًا القبائل العربية من تلك أنشطة هذا الاقتصاد، تحديدًا قبلتي أولاد سليمان في الجفرة وسبها، والزويلة في الجفرة ومرزق، والقذاذفة والمقارحة، حيث يسيطرون على مسالك وطرق التهريب المحلية. وكانت الصراع على العوائد التي تدرها تلك التجارة موضع تنافس وصراع كبير بين تلك القبائل العربية أو بينها وبين القبائل الإفريقية، وكانت في أحيان كثيرة عامل كبير في رسم منظومة التحالفات داخل الجنوب، التي غذتها الحساسيات القبلية وصراع النفوذ والزعامة.

إلا أن روابط العلاقات المصلحية بين عناصر تلك العصابات العابرة للقبائل والعرقيات، تُعد أقوى من الخلافات العرقية أو السياسية بين شخوصها كأفراد وليس كقبيلة أو عرق. والصراعات المسلحة بين تلك المجموعات السكانية لم تهدأ طوال السنوات الثماني الماضية، لكونها بالنهاية لاتخرج عنمنافسةًشرسة سواء بين قبيلتَي أولاد سليمان والتبو،على تجارة التهريب المُربحة بالمنطقة وتأمين الرواتب لعناصر ميليشياتهم الشباب(6)، أو ما بين القائل العربية نفسها مثل التنافس الحادث ما بين أولاد سليمان وقبلتي المقارحة والقذاذفة حول السيطرة على تجارة التهريب المدني المتنامي. إذ بالرغم من انهيار الاقتصاد الليبي وارتفاع الأسعار، تبقى السلع والمنتجات الليبية أرخص من مثيلتها في تشاد أو النيجر.

نظرًا لعدم وجود مخصصات مالية منتظمة لتلك الكتائب من المركز بطرابلس التي ساعد على إنشاء أغلبها لمهمة حفظ الأمن بالجنوب، بسبب الانشغال بالصراعات بالشمال، انخرطت العديد من عناصرها في مساعدة عصابات الجريمة المنظمة،أو التغاضي عن تحركاتهم وأنشطتهم سواء علىجانبي الحدود أو ما بين المدن الجنوب ذاتها، عبر آليتين للسيطرة والمتابعة: مساعي تأمين طرق التهريب؛ وإقامة مراكز الدعم اللوجسيتي على طول ممرات ومسالك التهريب عبر الصحراء مزودة بصهاريج الوقود والمؤن بل تخزين السلاح. إذ يقوم رجال التبو على سبيل المثال بحراسة أشهر طرق التهريب"طريق القذافي" بين الجنوب والنيجر ويمتد لمسافة 600 كم. ولذا كان تنافس تلك العناصر من طبائع الأمور للتغلب على شح الموارد بالجنوب، مثل صراع السيطرة على مراكز المراقبة الحدودية "احتكار التهريب"، والاستيلاء على المطارات والقواعد العسكرية والمنشآت النفطية المجاورة لشركات النفط الأجنبية.

اقتصاد التحولات العابر لحدود لليبيا مع دول الجوار الجيو ــ سياسي، يشمل تجارة المخدرات حيث يشكل الحشيش الحيز الأكبر من تلك التجارة، هناك مجموعات صغيرة من التبو والطوارق تعمل على تأمين مسارات تهريب المخدرات. في حين تنتشر مجموعات التبو في أقصى الجنوب مرزق حيث الحدود مع تشاد، فإن مجموعات الطوارق تعمل بالقرب أبوجي قرب الحدود مع النيجر، وقد شهدت تلك المنطقة صراعات محتدمة بين المجموعات التشادية بإيعاز من القوات الفرنسية بقاعدة مادما وأزاواد مالي من الطوارق، بعد انهيار دولتهم في شمال مالي، بالإضافة لمنطقة أم الحمام بالقرب من مشروع مكنوسة غرب سبها.

ثم تأتي تجارة السلاح في المرتبة الثانية، ويحمل بها ليس عصابات الجريمة المنظمة فحسب، وإنما أيضًا حركات التمرد السياسي والتنظيمات الجهادية. وتلك التجارة كانت بمرحلة ما أساس هذا الاقتصاد، ولكنها تدريجيًا تراجعت ليشغل المرتبة الثالثة بعد المخدرات والتجارة بالبشر. ويرجع ذلك بشكل كبير لحالة الاستنزاف الكبير التي حدثت للعتاد الحربي الذي سرق من مخازن الجيش الليبي بعد فبراير 2011 في إدارة وتوجيه الصراعات الممتدة اجتماعيا بالداخل الليبي، والحظر الأممي على تصدير السلاح إلي ليبيا. ومن ثم باتت ليبيا مستورد للسلاح من الخارج، كما بدا في حالتي ضبط السفينتين التركيتين اللتين كانت محملتين بالسلاح قبل إفراغ حمولتها في موانئ الخمس ومصراتة عامي 2018، و2019. أما تهريب السلع المدنية ومشتقات الطاقة فيُعدا أساس الطابع المدني لهذا الاقتصاد، يأتي بالمرتبة الرابعة والأخيرة.

ومكمن الإرهاب هنا، يكمن في بروز ظاهرة"تسليع الأمن بالجنوب"، بمعني مقايضة واستئجار الترتيبات الأمنية التي تضطلع بها تلك العصابات المسلحة وحركات التمرد مقابل المال، الأمر الذي تسبب في زعزعة وخلخلة كبيرة للبنية الاجتماعية والاستقرار الداخلي. وبدا ذلك واضحًا في عمليات الاختطاف والابتزاز للعائلات الغنية وأبناء القبائل، التي تمارسها هاتين المجموعتين تحديدًا ورصدتها التقارير الدولية بما فيها تقرير الأمين العام ن الحالة الليبية في يناير 2019.

أضف لذلك الطريق المسدود الذي يجد الكثير من أبناء الجنوب أنفسهم أمامه، فهم ما بين مطرقة إغواء عوائد التهريب أو المشاركة مع التنظيمات الجهادية من أجل الحصول على العمل والمال، في ظل شح فرص العمل ومجالات التنمية أمامهم.

ثانيهـا: تمكين التنظيمات الجهادية من تجنيد وتعبئة جزء من تيار المهاجرين.إذ يتم توظيف شح الموارد بالجنوب وتأجيج الصراعات المحلية حول الفرص القليلة التي يوفرها الاقتصاد العابر، في تدعيم علميات التجنيدالسياسي ليس لشباب الجنوب بشقيه العربي والإفريقي في صفوف التنظيمات الجهادية فحسب، وإنما أيضًا من تيار المهاجرين وتحديدًا أولئك الذين لديهم قابلية لاستيعاب الفكر الجهادي والتطرف، جنسيات هؤلاء متعددة فمنها العربية والإفريقية والأغلبية من تونس، مصر والجزائر، أما من الدول الإفريقيةفهناك المهاجرين منغانا والنيجر واريتريا وموريتانيا.

استفادت أيضًا تلك التنظيمات من تيار الهجرة العابر لمنطقة الجنوب لتجنيد وتعبئة عناصر جديدة من البلدان الإفريقية، تحت نفس الأرضية، استغلال حاجتهم للمال، وتعقيدات فرص الهجرة للشمال الأوروبي ما يحيط بها من مخاطر جمّة. الغاية واضحة الدفع بدماء جديدة داخل تلك التنظيمات لتعويض خسائرها البشرية التي منيت بها بعد إنهاء وجودها في مدن الشمال الليبي في درنة وسرت. إلى جانب توفير آليات متواصلة من الدعم اللوجيستي المتمثل في توفير الأغطية والغذاء والوقود والدواء يتم عن طريق بعض الأهالي بمقابل مادي كبير جدًا حيث يتم استغلال حالة الفقر ونقص الأموال وتوظف هذه الحالة لتجنيد أشخاص موثوق بها لتوفير هذا الدعم بشكل مستمر.

كما تقدم تيارات الهجرة المتواصلة طوال العام، دعمًا ماليًا للتنظيمات الجهادية وتحديدًا داعش. والتمويل يأتي بطرق غير مباشرة حيث يوظف التنظيم حاجة المهاجرين للانتقال الآمن عبر الطرق الصحراوية، ويقوم  بتأمين وصول المهاجرين من الصحراء إلي مدن الساحل وتحديدًا الساحل الغربي لليبيا حيث مؤيدها وعناصر منتشرة في تلك المدن، استعدادا لانطلاق رحلة الموت إلى أوروبا. إذ يدفع كل مهاجر ما يعادل ثلاثة الآلف دولار، مقابل تأمين وصوله إلي شواطئ غرب ليبيا، وتعتبر هذه القيمة ذات فائدة وتعود بالمردود المالي الكبير علي عناصر التنظيم، وهي تكاد تكون بشكل يومي. بالتزامن مع تلك العوائد المالية يتم استقطاب بعض المهاجرين للالتحاق بالتنظيم من خلال توفير الأموال لهم ويتم إعداد معسكرات للتدريب لتدريبهم علي الفنون القتالية وزرع العقيدة الجهادية بعقولهم واستغلالهم لتنفيذ مخططات التنظيم الإرهابية.

وكان التعاطي مع هذا النمط الأول من الإرهاب، محدود للغاية في جوانبه الداخلية أو الدولية سواء من الاتحاد الأوربي أو حتى الأمم المتحدة، حيث اقتصر الأمر على إقامة مخيمات لائقة وإنسانية داخل مدن الجنوب، واقتصار الدعم المالي الذي يقدمه المانحون الأوروبيون للبلديات الجنوبية على هذا الشق الإنساني فقط، دون أن تجاوزه لصالح برامج تنموية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي تحد من أنشطة الاقتصاد العابر للحدود. بالإضافة إلى فرض حصار شامل على ليبيا في مجالي التسليح والرقابة المالية.بالرغم من التضييق الكبير والحصار، تظل ليبيا بجغرافيتها السياسية مواطئ قدم كبيرة سواء في علميات غسيل الأموال، أو تمويل الإرهاب. وليس أدل على مصداقية ما نتحدث عنه سوى استمرار إدراج ليبيا على لائحة الدول عالية المخاطر في مجال غسيل الأموال وتمويل الإرهاب الذي أصدرتها مفوضية الاتحاد الأوروبي في 13 فبراير 2019 ويضم 23 دولة ومنطقة حول العالم.

 

 

(3)للأسف يتم هنا تجاهل التاريخ بشكل متعمد، فتجارة البشر شكلت دومًا أحد مصادر اقتصاد الصحراء الليبية، فعلى سبيل المثال تجارة تلك التجارة مصدر هام لدولة أمحمد في القرن التاسع عشر وكانت عاصمتها في مدينة مرزق، التي شكلت مركزًا كبيرة لتجارة البشر عبر القارة الإفريقية.

4)تواجد قوة من تبو ليبيا وتشاد في جنوب سبها وأطراف المدينة الغربية وهي في صراع دموي مستمر مع قبائل أولاد سليمان في سبها، التي تسعى دوما لزعامة الجنوب، فقد كانت هناك محاولة في القرن التاسع عشر لإقامة دولة جنوبية بجوار دولتي طبرق وطرابلس  قادها أحد أبرز زعماء القبيلة عبد الجليل سيف النصر، إلا أن الموت انهي مشروعه السياسي.

وتمتهن هذه المجموعات الخارجة عن القانون أعمال الحرابة والقتل والابتزاز والقتل، يقودها مجموعات التبو اللاشي المهدي، وهو ضابط استخبارات تشادي منشق عن نظام إدريس دبي، كان سجينًا سابقًا بسجن أبوسليم بطرابلس وأطلق سراحه عقب سيطرة معارضي القذافي علي العاصمة طرابلس في أغسطس 2011. حسب شهادات محلية، يشرف الرجل بشكل مباشر علي الجريمة المنظمة في أغلب مناطق الجنوب، ولديه قوات تتمركز بمنطقة القطرون أيضًاوينسب إليه تهريب أعداد كبيرة من تبو تشادإلي جنوب ليبيا وتجنيدهم وتمويلهم ودعمهم بالسلاح والمال.

وقبل سيطرة حفتر على سبها في شهر يناير 2019، كان هؤلاء يتمركزون في: المطار، فندق الجبل، الثانوية الجوية، حي الأربعين والشركة الهندية بالجنوب، معسكر الدعوكي غرب مطار سبها، ومعسكر المغاوير بالقرب من قلعة سبها. إلا أنهم الآن نزحوا جنوب الزويلة ونحو القطران.

5 )فأقمت الضغوط الإقليمية من الشعور بأن الطوارق يتراجعون أمام التبو. ففي العام 2014، أغلقت الجزائر حدودها مع ليبيا، وفرضت الدوريات الفرنسية في ممر سلفادور في النيجر قيوداً شديدة على حركة الطوارق التقليدية عبر الحدود. وقد اتّهم الطوارق القوات الفرنسية المتمركزة في قاعدة ماداما في النيجر – على بعد 100 كيلومتر فقط من الحدود الليبية – بالتغاضي عن المهرّبين والمقاتلين من قبيلة التبو الذين يعبرون شمالاً.

(6)رصّ القذاذفة صفوفهم مع التبو في الصراع الذي استمر ما بين عامي 2014 ــ 2015، فاستولوا على قاعدة تمنهنت الجوية العسكرية، في حين وضع أولاد سليمان يدهم على قلعة إلينا التي تعود إلى الحقبة الإيطالية وتقع على تلة مطلّة على سبها. ومن ثم اندفعت مدينة سبها مجدداً نحو دوّامة عنف وصدامات مسلحة، وتحوّلت أحياء بكاملها إلى مناطق خارجة عن سلطة القانون تحكمها ميليشيات وعصابات إجرامية. سجّلت أعداد جرائم القتل والخطف ارتفاعاً شديداً. وأغلقت المدارس أبوابها؛ ولازم الجميع منازلهم، ولقي العديد من الشباب مصرعهم في تلك المعارك المسلّحة للسيطرة على الاقتصاد العابر.