الحذاء ...فى ثرات الشعوب

75424762_102502481192568_4214877026491826176_n.jpg

مقال منقول :


حاجات الإنسان هي التي تقف خلف إكتشافاته عبر مسيرته الطويله منذ أن إعتدل عاموده الفقري وبات قادر على السير منتصب من دون الحاجه لساعدين ظلا ينحوان نحو القِصر، وذيل بدء بالضمور منذ أن هبط من أعالي أشجاره ولم يبقى منه الآن إلا أثر صغير ندعوه بالعصعوص . إكتشاف الإنسان لتغطية قدميه لا بد أن يكون قد بدء مع نجاحه في أن يسير منتصبا وبات قادر على السير على قدمين تتعرضان لسخونة الأرض ووعورة وأذى الطريق من أحجار مدببه وأشواك وبقايا أغصان جارحه، لكنه ببدائيته تلك لم يكن له أن يعرف أنواع الأرديه وأغطية الجسم طلبا للحراره إلا مع بدء مرحلة الصيد وتخليص غذائه من اللحوم عن جلودها التي تمكن من معرفة إستخدامها كغطاء لجسمه طلبا للدفئ وأيضا لف قدميه بقطع منها متحاشيا ما يلحق بها من أذى أثناء تنقلاته ورحلة البحث عن طعامه .... كان غطاء القدمين الجلدي هذا هو أول حذاء إرتداه الإنسان في مسيرته الطويله نحو الحضاره والدفاع عن الذات .

مواجهة الطبيعه القاسيه هي التي تقف خلف إكتشافاته البدائيه الرائعه دفاعا عن نفسه أمام سطوة حيواناتها الشرسه والمناخات المتبدله، العصى سلاحه الأول وجلود الحيوانات التي إصطادهها كانت غطاءه الأول لرأسه وباقي أنحاء جسده أمام هجمات الحر والبرد خصوصا بعد أن بدء شعره الكثيف ينحسر عن جسده ليستقر في منطقتين إثنتين بعد أن كان يغطي كل جسده، لم يكن هناك من وازع ديني بعد يقف خلف تغطيته لعورته أو لرأسه أو إطلاق لحيته وحف شاربه وتحديد أزياءه بمحددات دينيه لا تتوافق مع تاريخ تطوره ومسببات إرتداءها .

عرف العرب في جزيرتهم الصحراويه كغيرهم من الأقوام غطاء للقدمين يوفر لهم السير دون تعريضهم لسخونة رمال صحراءهم الملتهبه، ومن المؤكد أن غالبيتهم العظمى كانت عاجزه عن إقتناء وسيله حيوانيه للتنقل وهي التي ظلت حكر على الأغنياء منهم، هنا يصبح غطاء القدمين ضرورة لابد منها كما هو ضرورة طبيعية للإنسانية عامة . غطاء القدمين كان مصنوع من جلود بعرانهم في غالب الأحيان وهو عندهم على نوعين، " الخف " و " النعل " ، النعل ما له زمام يُحشر إبهام القدم فيه ليفصله عن باقي الأصابع ومعه سير من الجلد يربطه بالشراك الذي يغطي كعب القدم، أما الخف فهو مايستر أصابع القدم والكعب وهو أشبه بحذاء اليوم . ورد في الحديث عن أنس بن مالك أن الرسول كان يصلي بنعليه وهو القائل : خالفوا اليهود فإنهم لايصلون في نعالهم ولا خفافهم، وعن جرير بن عبدالله أنه رأى النبي يمسح على خفيه في الوضوء، وقد أمر محمد بالإنتعال بدءا بالقدم اليمنى ونزع النعل الأيسر أولا وحمل النعلين تحت الإبط الأيسر وليس الأيمن، ولا من حكمة دينيه أو إجتماعيه من وراء كل هذا، الإنتعال ونزعهما يتم جلوسا حسب ما أمر، ربما بسبب من صعوبة ما كان يلاقيها منتصبا .

الصحابي عبدالله بن مسعود لُقب بحامل نعل النبي، وهو الذي كان يحملهما بعد أن ينزعهما نبيه في المسجد، وكان يحمل عصاه أيضا، ولم يلقب بحامل عصى النبي . عائشه قالت أن النبي كان يخصف نعله أي يرقعه وهو مالا نعقله، فمحمد لم يعش فقير أبدا وهو الذي يقول عن جابر : إستكثروا من النعال، مما يعني أنه كان يملك أكثر من واحد، وقد أورد إبن عباس مثل هذا الحديث عن علي بن أبي طالب وهو خليفه عندما دخل عليه ورآه وهو يخصف نعله، عليّ إمتلك من المال ما مكّنه من الزواج من ثمانية نساء بعد فاطمه وإعالة الكثير من أبناءهن وبعض الجواري . ربما البعض لم يكن يملك أكثر من الذي ينتعله وآخرون يملكون أكثر من واحد وغالبيتهم العظمى كانوا حفاة القدمين حتى إحتلالهم مناطق الخير خارج الجزيره ونهبهم لثروات شعوبها مما كان له الأثر الواضح في الإرتقاء بمستوى معيشتهم وتطور أزياءهم ومنها نعالهم . وقد عرف العرب نعل الخشب الذي نسميه في بلاد الشام بالقبقاب وهو الذي أجاز أحمد إنتعاله عند الحاجه، وأكثر ما كان يستعمل في حمامات الأسواق العامه، كما هو الأمر عليه في حمامات البيوت وبيوت راحتها، القبقاب إندثر الآن ولم يبقى من صانعيه في دمشق إلا ما لايتجاوز أصابع اليد . شجرة الدر التي حكمت مصر لمدة ثمانين يوما وتنازلت بعد حملة عنيفه قادها رجال الدين قتلت بضرب القباقيب .

الوليد بن المغيره قبل الإسلام كان يدخل الكعبه نازعا نعليه وهو أول من فعل هذا، وكعادة المسلمين في إستعارة الكثير من عادات وطقوس من سبقهم، نراهم يدخلون مساجدهم بعد نزع أحذيتهم دون أن يكون هناك مكان خاص لحفظها عند أهل السنه، بينما تحفظ في مراقد أئمة الشيعه وحسينياتهم في أماكن خاصه تسمى كشوانيات مع بطاقة ذات رقم تعطى لصاحب الحذاء مقابل مبلغ بسيط وأحيانا دون مقابل، في صلاة العيد يرتدي المصلون أحذيه جديده يتعرض بعضها للسرقه ويعود صاحب الحذاء الجديد لمنزله بنعال ممزق قديم، وصاحب النعل بحذاء جديد، وأشهر قصص الأحذيه في الموروث الشعبي، تلك التي ألفها تقي الدين بن حجه الحموي ( ت 837 هـ ) والخاصه بمركوب أبو القاسم الطنبوري .
المثل العربي القديم يقول : عاد بخفي حنين، ويقال في من خسر الكثير وربح مكانه القليل، أو في من يضّيع بسوء تقديره الكثير ليجني القليل، وفي التشابه الشديد بين أمرين قالوا: حذو النعل بالنعل، وفي وصف المرأه يقول العرب المسلمون : المرأه نعل الرجل، ولا يخفى ما في هذه الكناية من تحقير لها إذا ما علمنا مقدار الدونية التي تلصق بالحذاء في ثقافتهم .

الرومان واليونان والمصريين عرفوا الصندل ذو السيرين الطويلين اللذان يتقاطعا بلفهما على الساق إلى ما دون الركبه، كان هذا الصندل شائع عند النساء والرجال خصوصا العسكر منهم، وما زال شائع حتى الآن ضمن أزياء المرأه وليس الرجل، الصندل للرجل يتوقف الآن عند الكعبين، وما زلت أذكر في مدرستي الإبتدائيه صنادل الفقراء ذات النعال المصنوعه من قطع إطارات السيارات الباليه، وفي أواسط آسيا ينتشر الحذاء المعقوف بوزه إلى الأعلى، أما الفتيات الصغيرات التي تعدهن مدارس الجيشا في اليابان ليصبحن لاحقا فتيات جيشا، فتوضع أقدامهن في قوالب خشبيه لا يتم نزعها إلا بعد أن يتوقف نموها، ليكون هناك فتاة في سن العشرين بقدم سن العاشره .... القدم الصغيره عندهم واحده من مظاهر جمال الفتاه .

في خمسينات القرن المنصرم، إشتهر وظهر في الأسواق ما أسميناه " زنوبه " وأطلقوا عليه في العراق " أبو الأصبع " ليحتل مكان القبقاب في الحمامات منعا للإنزلاق، وهو نعل من الإسفنج إرتداه الناس على نطاق واسع ليتمختروا به متباهين في شوارع مدنهم، وما زالت الزنوبه شائعة الإستعمال حتى الآن في بيوتنا وشوارعنا . المرأه في ملبوساتها وأحذيتها أكثر حظا من الرجل، طورت دور الأزياء الزنوبة لها، وأحذيتها من كل شكل ولون، والكعب العالي عند شيوخ المسلمين محرم، فهو يعرضها للسقوط وأذى النفس وهو مايحرمه دينهم على ما يقولون، كما أنه يدفع بمؤخرتها للترنح يمنة ويسرى صعودا وهبوطا بما فيه من فتنه للناظرين ودافع للتحرش بها، بينما أحذية الرجل ذات ألوان محدده ويغلب عليها اللون الأسود، وفي النصف الأول من القرن الماضي ظهر حذاء للرجل ذو لونين، أسود وأبيض وكان مقياس لثراء الرجل وأناقته ... كان مستورد ولا يمكن تفصيله في أسواقنا، وتفصيل الأحذيه هو الذي كان سائد للمتانه التي تتمتع بها ورخص أسعارها قياسا بالمصَنّع الجاهز، وأشهر شركات الأحذيه الجاهزه التي عرفها السوق العربي كانت شركة " باتا " . الرجل كان يطلب من الصانع ( الكندرجي ) حذاء لإبنه أكبر بنمرتين حتى يتلائم مع قدمه بعد سنتين أو ثلاث، وعندما يهترئ نعله يعود به إلى الكندرجي ليركّب له نصف نعل، أو آخر لكامل الحذاء مع تلك الحدوات الحديدية التي تأخذ شكل هلال، واحده في مقدمة النعل وأخرى في نهاية الكعب، ومن أراد أن يضمن عمرا أطول لنعله يضع إثنتان أخرتان باطنه وظاهره، ومقياس الحذاء هو " النُمره " ، حذائي نمره 42 أو 43 حسب موديله، ويقال أن صانع أحذية ملك أدوارد الثاني ( ت 1327 ) هو الذي إخترع ذلك المقياس بحبات الشعير . بداية القرن الماضي كان أثرياء القوم يغطون أعلى أحذيتهم بياقه بيضاء شبيهه بياقة القميص كأحد مظاهر الأناقه، وفي الخمسينات وفي أيام الشتاء كانوا يُلبِسون أحذيتهم غطاء مطاطي أسود اللون للحفاظ عليه من الإتساخ ثم يقوم الرجل بنزعه عند وصوله لعمله في وزارته أو الدائره التي يعمل موظفا بها، وكم منا من إرتدى فردتي حذاء مختلفين دون أن ينتبه ليعود لمنزله سريعا بعد أن يكون زميل له قد أثار إنتباهه .
دونية الحذاء ومهانته واسعة الإنتشار في بلداننا وتشمل كل الطبقات، في العراق يشتم المتخاصم خصمه قائلا له : إبن القندره، وفي بلادنا يقول له : كندرتي على راسك، وكندرتي أشرف منك ومن اللي خلفوك، والضرب بالحذاء يعتبر مهانة عظمى، أثناء إلقاء رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لكلمته في الجمعية العامة للأمم المتحده عام 1960 ، نزع خروتشوف فردة حذائه ليطرق بها منصته، كما تطايرت الأحذيه والنعال من فوق رأس أياد علاوي عام 2005 وهو في زيارة ضريح الإمام عليّ في النجف الأشرف، لكن حذاء الزيدي تم الترويج له على نطاق واسع، صدر الحكم بالحبس لمدة سنه بحق الزيدي وأطلق سراحه بعد تسعة أشهر لينعم بأموال الدعم الوفيره التي هبطت عليه بضربة حذاء، ولو فعلها الزيدي في زمن صدام لتم شنقه هو وكل أفراد عائلته برباط حذائه دون محاكمه، ولا يستطيع أحد أن يفعلها في رئآساتنا دون عقوبات صارمه، الزيدي نفسه قُذف لاحقا بحذاء أحد مواطنيه، ورئيس السودان قذف بالحذاء دون ظهور أي صور بسبب مصادرة كل الكاميرات والهواتف التي سجلت الحدث وقيل أن الرجل مجنون وأودع مارستان المجانين في السودان .... تتطاير الأحذيه في معاركنا في المقاهي والشوارع وحتى في صفوف الدراسه .

كثير من العوائل تحمل إسم مهنة إمتهنها أحد أجدادههم، النجار والحداد واللحام أو القصاب والخوري والشيخ، ومن إمتهن مهنة لها علاقه بالحذاء، هناك في العراق عائلة القندرجي ومنهم قارئ المقام المعروف رشيد القندرجي ( ت 1945 أو 1948 ) وعائلة الخَفاف وهو صانع الخِفاف ومنهم الملحن العراقي جعفر الخفاف .

واحد من الذين يعملون بتفصيل الأحذيه، عمل حذاء لرئيس دولته دون أن يأخذ مقاس قدميه .... كان الحذاء مطابق تماما لقدمي الرئيس، ولما سُأل عن سره قال :
صارلنا أربعين سنه كندرته فوق راسنا .... بديش أحفظ قياسها !!!!