نخيل ليبيا... صناعة مشروب اللاقبي تدمّر البشر والشجر


368.jpg



يقف البائع المتجوّل حميد بوزنان على قارعة الطريق الساحلي في منطقة وادي كعام، التي تبعد 130 كيلومتراً شرقي العاصمة الليبية، عارضاً بضاعته من شراب "اللاقبي" المصنوع من جذوع أشجار النخيل، إذ صارت "كعام، الشهيرة بكثرة مزارع النخيل، محجاً لطالبي هذا الشراب"، كما يقول محسن صويد، مدير إدارة التدريب والتطوير في هيئة الزراعة والثروة الحيوانية والبحرية في وادي كعام، والذي يشعر بالخطر الشديد على مستقبل النخيل الليبي، بعد تصاعد ظاهرة استخراج مشروب اللاقبي، نظراً للعائد الكبير الذي يحصده العاملون في هذه المهنة، إذ تنتج النخلة الواحدة من العصير ما قيمته 400دينار ليبي (282 دولاراً أميركياً)، وهو ما دفع الشاب بوزنان إلى استهلاك 120 نخلة من بين 200 نخلة ورِثها عن والده، حفر جذوعها، للوصول إلى لبّها ومن ثم استخراج عصارتها، التي يميل لونها إلى الأصفر، ويشبه مذاقها التمر المُحلى بالعسل.

ويجمع حميد قطرات اللاقبي من قلب النخلة عبر أنبوب بلاستيكي صغير، يصب في وعاء تصل سعته إلى 20 لتراً، وتستغرق العملية ما بين 10 إلى 12 ساعة، ويمكن للنخلة إنتاج 50 لتراً من شراب اللاقبي في العام، غير أن استنزاف حميد نخيله دمّر مزرعته، لكنه يعتبر أنه وزملاءه ممن يعملون في صناعة اللاقبي مُجبرون على ذلك، بسبب التردي الأمني الذي تعيشه البلاد، ما صعّب من عملية تسويق التمور، في ظل منافسة شرسة بين الإنتاج الليبي والتمور التونسية والجزائرية عالية الجودة.


تراجع إنتاج التمور

قبل عامين، انتشرت صناعة اللاقبي في وادي كعام، بعد أن جاءت من تونس التي تشتهر به، وهو ما أدى إلى تدمير 18 مزرعة نخيل بشكل كلي أو جزئي، وفق ما أحصاه محسن صويد، والذي يرى أن "المال جعل أصحاب المزارع العاملين في هذه المهنة، يدمّرون ثروة البلاد من النخيل"، وهو الرأي الذي يؤيده زين العابدين سالم، أستاذ علوم الزراعة في جامعة طرابلس، موضحا أن استخراج عصير اللاقبي يُفقد النخلة 60 % من عصارتها، وفقا لدراسات وتحاليل مخبرية قام بها، وبالتالي موت النخلة خلال ثلاثة أيام، حتى وإن بدى سعفها أخضر لمدة أطول، لكن في الحقيقة أن النخلة ماتت بسبب فقدانها عصارتها وعدم قدرتها على تعويضها.

وتمتلك ليبيا 9 ملايين نخلة، بحسب آخر إحصاء قامت به وزارة الزراعة في عام 2010. وتشغل زراعة النخيل مساحة 23 ألف هكتار موزّعة بين مناطق الساحل الليبي وأربع مناطق في الجنوب، تنتج 309 أصناف من التمور. ويؤيد صويد هذه الإحصائيات، موضحاً أن الإنتاج الليبي من التمور وصل إلى 150 ألف طن في بداية 2011، غير أنه تراجع بشدة إلى 80 ألف طن في 2014، ولم يتجاوز 38 ألف طن في عام 2015.

"
بدأ الإضرار بثروة ليبيا من النخيل منذ بدايات عهد القذافي، بعد أن ألغى وزارة الزراعة عام 1986
"ولا يستبعد الحاج ناجي الحلو، أشهر زارعي النخيل في منطقة ودان (وسط الجنوب الليبي) أن يكون إنتاج اللاقبي أحد أهم أسباب تراجع إنتاج النخيل من التمور، قائلاً "ما يرجحه المهندس صويد صحيح، هذه المهنة المقيتة داهمت مزارعنا هنا أيضا، ولكن مشكلتنا أكبر؛ إذ إن النخيل في الجنوب الليبي ينمو بكثافة في الواحات ويصعب مراقبة المعتدين عليه".

ويتحدث الحلو، لـ "العربي الجديد"، قائلا بأسى "حصل تمر ليبي يُعرف باسم حليمة على المركز الثاني في مسابقة عالمية في كندا، ومع أن إنتاج نخلته يجني أموالا طائلة لندرته، عثرنا مؤخرا على العشرات من أشجاره وقد قُتلت بفعل اللاقبي".

وتتوفر في نخيل الجنوب الليبي المواصفات التي يبحث عنها مستخرجو اللاقبي، ومنها الجفاف، وقلة نسب الرطوبة "وهو ما يجعل عصارة النخيل صافية تماما من الشوائب" بحسب الحلو، الذي رصد تواجدا لعصابات تستخرج اللاقبي من أجل استخدامه في صناعة الخمر، بعد خلطه بأنواع من العقاقير والمنبهات، حتى يتحول إلى نوع من المسكرات بأقل التكاليف.

وعرفت ليبيا، في أربعينيات القرن الماضي، صناعة اللاقبي، إذ استخدم الأجداد، كما يقول الحلو، النخيل غير القادر على إنتاج التمور، في إنتاج كميات قليلة من اللاقبي، وتوقف الأمر بعد ذلك، حتى عاد بقوة مؤخرا.


استغلال المهاجرين غير الشرعيين

في منطقة مرزق في عمق الجنوب الليبي، رصدت الجهات الأمنية ازدهار صناعة الخمور من عصير اللاقبي. ويفيد أبو الأسعاد الأحول، آمر دوريات الاستطلاع في جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية في المنطقة، بأن مهاجرين أفارقة غير شرعيين تستغلهم مجموعات مسلحة في العمل على استخراج اللاقبي من مزارع النخيل في واحات الصحراء.

وقال أبو الأسعاد، لـ "العربي الجديد"، "عثرت فرقنا على عشرات البراميل التي كانت تحتوي على مواد كيماوية تضاف لعصير اللاقبي والذي يُدفن في رمال الصحراء لفترة ليتحول إلى خمر في واحات جبال الهروج". ويتابع "تجارة خمر اللاقبي رائجة ومربحة، إذ يباع بأسعار أرخص من الخمور المستوردة، لكن المحزن أنه تم قتل نخيل واحات بأكملها".

وبسبب الوضع الأمني المنفلت في ليبيا، يرى أبو الأسعاد صعوبة في الحؤول دون وقف ظاهرة استخراج اللاقبي من نخيل ليبيا، قائلا "هذه المجموعات تجوب الصحراء ولا رادع لها، تتاجر في المخدرات والأسلحة وتهريب البشر، ولا نمتلك القدرات الكافية لملاحقتهم، لأنهم أكثر تسليحا منا". "
تتوفر في نخيل الجنوب الليبي المواصفات التي يبحث عنها مستخرجو اللاقبي، ومنها الجفاف، وقلة نسب الرطوبة

"لكن الأمر يختلف في إحدى ضواحي مصراته، وتحديداً في تاورغاء (غربي ليبيا)، التي تم تهجير أغلب سكانها في عام 2011، بينما بقيت مزارع النخيل الكثيفة بها متاحة أمام استغلال تجار الخمور لها في إنتاج اللاقبي، إذ أكد المسؤول بجهاز مكافحة الجريمة في مصراته، الرائد سامي الشركسي، لـ "العربي الجديد"، أنهم قبضوا على تاجر خمور من المنطقة كان يتردد على غابات النخيل لاستخراج عصيرها وتحويله بطرق تقليدية إلى خمر.

وأوضح الشركسي أن قلة تكاليف تحويل اللاقبي إلى خمر جعلت منه مطلبا للمدمنين، خصوصا أن اللتر منه يباع بحوالي 8 دنانير، وهو ما يعد رخيصا، مقارنة مع كلفة الخمور المستوردة التي ارتفعت أسعارها بشكل كبير، بعد تهاوي قيمة الدينار مقابل الدولار.


مخالفة القانون

يكفل قانون حماية وتحسين البيئة الليبي الصادر في عام 2003، حماية شجرة النخيل من العبث والتعدي؛ إذ تنص بنود القانون رقم 15، والذي أقرته الحكومة المؤقتة في عام 2012، على فرض عقوبات على المعتدي على ثروة البلاد من الحياة النباتية، ومن بينها النخيل والزيتون المنتشران في ليبيا. وتنص المادة 75 من القانون على فرض غرامات مالية لا تقل عن 1000 دينار ليبي ولا تتجاوز 5000 دينار. ويمنع القانون بشكل قطعي الاستفادة من الأراضي الزراعية التي تتوفر على الأشجار المثمرة في أغراض بناء المساكن أو المحال التجارية.

لكن محسن صويد يرى أن القانون السابق لم يكن له قيمة، إذ بدأ الإضرار بثروة ليبيا من النخيل منذ بدايات عهد القذافي، بعد أن ألغى وزارة الزراعة عام 1986، الأمر الذي أدى إلى كارثة حلت بالمحاصيل والأشجار، وعلى رأسها النخيل. ويوضح أن إلغاء الوزارة والأجهزة التابعة لها والخاصة بالضبط والمراقبة، وعلى رأسها الشرطة الزراعية، نتجت عنه فوضى ضربت القطاع بكامله، بعد أن كانت ليبيا تمتلك 12 مشروعا للنخيل تنتج آلافا من أطنان التمور، حتى إنها صنفت من أبرز الدول عالميا في إنتاج التمور وكثافة النخيل.

وخصص معمر القذافي أراضي أربعة من مشاريع النخيل في منطقة الجفرة (وسط ليبيا)، والتي تعد من أغنى مناطق ليبيا لإنتاج التمور، من أجل إنشاء مؤسسات وزارة دفاعه، بحسب ما رواه صويد، وتابع ضاحكا "أمين اللجنة العامة الليبية المؤقتة للدفاع، أبوبكر يونس، كان يخرج على الإعلام، من حين إلى آخر، متحدثا عن مساعيه وعمله من أجل زرع آلاف من فسائل النخيل وتنمية صادرات البلاد من التمور، ولا نعلم ما علاقة العسكر بالنخيل".

وأطلق القذافي، في مطلع الثمانينيات، حملة لتطبيق إحدى مقولات كتابه الأخضر وهي "الأرض ليست ملكا لأحد"، وبموجبها تم الاعتداء على آلاف الهكتارات من المشاريع الزراعية، "ومن أبرز الجرائم التي ترتبت على هذه المقولة، تحويل مشروع "أم النخيل" شرق طرابلس، والذي احتوى على 100 ألف فسيلة نخل، إلى أراضي بناء لاستراحات وفلل للاصطياف من قبل أركان النظام"، بحسب صويد.

أضرار اللاقبي

يحذّر حافظ النعمي، الخبير في إدارة مراقبة جودة الأغذية والأدوية في جامعة طرابلس، من خطورة تعاطي اللاقبي بعد تخمّره بشكل شديد، موضحاً أن "أضرار خمر اللاقبي المصنّع بشكل بدائي أكثر من أضرار غيره من المسكرات، والتي تخضع لشروط إنتاج قياسية تخفف من نسبة الكحول بعكس اللاقبي، بالإضافة إلى أن ظروف إنتاجها تختلف تماما عما يحدث من إنتاج بدائي للاقبي، والأدهى أنه يتم إضافة أقراص مخدرة مثل الترامدول وغيره إلى العصير المتخمر، ما يهدد حياة متعاطيه".

ويعد سكر الفاكهة، المعروف بالفركتوز، المكون الأساسي لعصارة اللاقبي، والتي تتخمر بشكل سريع في حال تعرّض المزيج للحرارة، بفعل نشاط بكتيريا Bacillaceae، المتوفرة بكثافة في أجواء ليبيا، كما يقول النعمي، لافتا إلى أن سبب ارتفاع نسبة الكحول في خمر اللاقبي، يرجع إلى تصنيعه في درجات حرارة عالية، الأمر الذي يهدد صحة متعاطيه بشكل أسرع، مما يتعرض له متعاطو غيره من الخمور، وهو ما يتطلب تدخلاً حاسماً من قبل الجهات الأمنية والمجتمعية، حفاظاً على ثروة ليبيا من البشر والنخيل