اهمية كتابة التاريخ الشفهي للشعوب؟
من حق الذين عانوا ويلات الحروب أن تُكتب شهادتهم عن ما حدث، وكيف حدث، ولماذا حدث، وأثر ما حدث على العلاقات الداخلية داخل المجتمع، وهو ما يُعرَف بالتراث غير المادي أو التاريخ الشفاهي، فتاريخ العالم منذ هيرودوت([1]) وحتى فولتير([2]) كان في أساسه أو أكثره تراثًا غير مكتوب يتم تداوله شفويًّا ثم كُتِبَ، ولم يتأسَّس التاريخ المكتوب بوصفه علمًا أو حقلاً معرفيًّا أكاديميًّا DISCIPLINE إلا في غضون القرن التاسع عشر([3]).
وهناك مَن يذهب إلى أن التاريخ الشفهيّ أبعد من كونه إجراء المقابلات؛ بل يُعرف بأنه "مجال دراسة وطريقة لجمع صوت الناس والمجتمعات والمشاركين في أحداث ماضية وذكرياتهم وحفظها وتفسيرها([4]).
وهناك مَن يعرّفه بصورة أكثر اتساعًا بأنه "تسجيل ذكريات الناس وتجاربهم في الماضي القريب بطريقة تختلف عن المادة المكتوبة، معتمدًا على المحادثة المنضبطة بين شخصين، وتأخذ المحادثة شكل المقابلة". أو هو "مجموعة شهادات الناس حول تجاربهم الخاصَّة، وهو بذلك ليس فولكلورًا، أو ثرثرةً، أو إشاعةً، بل هو مصدر تعزيز للمادة التاريخية المتوفرة لدى المؤرخين"([5]).
وقد تعددت التعريفات للتاريخ الشفهي؛ منها([6]):
-عملية تجميع ودراسة المعلومات التاريخية باستعمال مسجلات صوتية لمقابلات مع أشخاص يتذكرون أحداث الماضي([7]).
-منهج بحث يُعْنَى بدراسة الماضي من خلال الكلمة المحفوظة في الذاكرة والمنقولة مشافهة([8]).
-روايات تاريخية متنوعة رواها أناس يعرفون الحدث التاريخي ويلمُّون به، أو ببعض منه، وقد يكون هؤلاء الناس مهمّين في مجتمعهم، أو عاديين، ولكنهم يَكنزون في صدورهم روايات الماضي، ولهم دراية كبيرة بأحداث مجتمعاتهم([9]).
-اتجاه في كتابة التاريخ يعتمد إلى حدّ كبير على إجراء مقابلات مع كبار السن، الذين يقدمون معلومات عن أحداث سابقة عاشوها أو سمعوا بها؛ فهو عملية تسجيل تاريخ الحياة لعدد كبير من الناس([10]).
شكل مهمّ من أشكال البحوث التحليلية التاريخية التي تُسجّل الكلمات المنطوقة والشهادات الخاصة بالأفراد الذين شهدوا أو شاركوا أو عاصروا مَن شارك في أحداث تاريخية مهمَّة، فيتم تسجيله بواسطة تسجيلات صوتية أو صوت وصورة معًا لغرض دراسة الحوادث الماضية والحديثة، ونقلها إلى الأجيال المستقبلية([11]).
وقد اعتُمد التاريخ الشفاهي في سنة 1948م كأسلوب حديث للتوثيق التاريخي عندما بدأ "الان نفينز" ALAN NEVINS بجامعة كولومبيا القيام بالتسجيل الصوتي للسِّيَر الذاتية لبعض الأشخاص ذوي الأهمية في الحياة الأمريكية([12])؛ حيث بدأ بعد الحرب العالمية الثانية تجميع الشهادات الشفوية ممن عاصروا الحرب، بمعاركها ومآسيها ومهازلها، وعذاباتها وقصصها وبطولاتها، في كلٍّ من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، واتجهت هذه الشهادات نحو الأرشفة والتوثيق، ليتم استخدامها مِن قِبَل المؤرخين المحترفين أو للنشر المباشر كمذكرات وروايات وقصص وانطباعات وأفلام.
وهناك العديد من الأدوات التي تُستخدَم في كتابة التاريخ الشفهي، منها المقابلات الأولية، والتي تهدف إلى التعرُّف على مجتمع الدراسة، والمقابلات المعمَّقة، وهي المقابلات التي تستغرق وقتًا طويلًا للحصول على البيانات والمشاهدات، والملاحظات الميدانية، والتي يتم رَبطها مع البيانات التي تم الحصول عليها، وكذلك المناقشات الجماعية.
الدول الإفريقية والحاجة إلى كتابة التاريخ الشفهي:
تعتبر الدول الإفريقية من أشد الدول حاجةً إلى كتابة التاريخ الشفهي لها؛ نظرًا لما تعرَّضت له القارة من استعمار طوال تاريخها، فهي قارة دائمًا في صراع؛ صراع مع الاستعمار من أجل التحرُّر، وصراع داخلي من أجل السلطة والنفوذ، رافق ذلك محاولة لطَمْس كيانات على حساب كيانات أخرى، ساهم فيه سيطرة الإثنية والولاء القبلي على تفكير المواطن الإفريقي.
ليس الاستعمار فقط هو ما عانت منه القارة، بل يمكن لنا أن نضيف كل المصطلحات السلبية والآفات التي يمكن أن تُصيب أي مجتمع وأفراده مثل: التهميش، الإبادة، الاستعباد، الاستبعاد، المجاعات، التفكك، عدم الانسجام بين أفراده وقبائله، الإقصاء، الجهل، عدم التمكين، الإثنية، العنصرية... إلخ، كل هذا يساهم في إشعال الحروب الداخلية بين أبناء الوطن الواحد.
لقد أقام الاستعمار قبل زواله دولاً غير منسجمة لا اجتماعيًّا ولا ثقافيًّا ولا قَبَليًّا، ممَّا عرَّض تلك الدول للعديد من المشكلات التي ذكرناها سابقًا. هذا بجانب أن التاريخ المكتوب، الذي يعتزّ به كل إنسان ويُشعره بالفخر والهوية، لا يُرضي الكثير من المجتمعات الإفريقية؛ فهم يرونه –في كثير من الأحيان- تاريخًا غير مُعبّر عن هويتهم، وأن تاريخهم لم يُكتَب بعدُ، بعضهم يراه قد كُتِبَ بواسطة كيانات تحاول أن تفرض نفسها عليه وتعمل على إقصائه، والآخر كُتِبَ بأقلام غير إفريقية لا تعرف شيئًا عن هويته ولا ثقافته وتراثه الفكري، وبعضها يَسخر من أساطيره ومعتقداته.
محاولات متميزة:
هناك عدة محاولات متميزة قامت في بعض الدول الإفريقية لكتابة تاريخ معبّر عن الشخصية والمجتمع الإفريقي، قائم على تدوين التاريخ الشفهي للشخصية الإفريقية، منها تجربة جنوب إفريقيا، وقد بدأت التجربة مع عودة ظهور حركة المقاومة ضد الفصل العنصري أواسط سبعينيات القرن الماضي، وتشكيل ورشة التاريخ في جامعة ويتواترسراند؛ حيث مكّن ظهور آلات التسجيل المحمولة في التسهيل من أداء تلك المهمة، تلا ذلك مشروعات جامعية أخرى في جنوب إفريقيا لكتابة التاريخ الشفهي؛ منها مشروع ناتال للتاريخ العمالي في جامعة ناتال، ومشروع كيب الغربية للتاريخ الشفهي في جامعة كيب تاون.
وقد حرص القائمون على كتابة التاريخ الشفهي في جنوب إفريقيا على كَسْر ما كان يُطْلَق عليه "حالات الصمت" التي أوجدها نظام الفصل العنصري، وقدموا ما عُرِفَ فيما بعد بـ"وجهات نظر من الأسفل".
وهناك أيضًا التجربة الموريتانية في كتابة التاريخ الشفهي، وقد بدأت تلك الخطوة تحت إشراف الاستعمار الفرنسي، وبدأت مع المناطق التي تسكنها الجماعات ذات الأصل الزنجي الإفريقي الناطقة بغير اللغة العربية، مثل تدوين رواية عباس صو عن منطقة فوتا، ورواية "يورو أديا" عن مملكة والو، وأساطير "كيديماخا"، وهي مناطق تقع على حوض نهر السنغال، إلا أن تلك الجهود توقفت بدافع مواقف سياسية مناهضة للاستعمار.
ثم جاء دور المعهد الموريتاني للبحث العلمي الذي قام بدور مميز اعتبارًا من عام 1974م، وأقام مكتبة صوتية تزيد عن الألف أسطوانة من التراث الشفهي الموريتاني، وأهم ما يُميّز تلك المكتبة أنها تحوي معلومات من مجموعة من أكابر طبقات المجتمع الموريتاني.