Toboupost تبوبوست

View Original

الاستبداد بوصفه نزوعاً شخصياً:


_______________________

"إنما العاجز من لا يستبد"، و"الظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم". يلتقي إذاً الشاعر الماجن والمستهتر عمر بن أبي ربيعة مع المتنبي، الشاعر الحكيم والرصين، في تقييم طبيعة النفس البشرية. وفي الروايات أن هارون الرشيد وجد في قول ابن أبي ربيعة هذا عوناً له في "استبداده" بالبرامكة والفتك بهم، وذلك على رغم أن ما يتناوله بيتا الشعر الآنفان يخص الطبيعة البشرية وليس طبيعة الحكم التي ينبغي أن تنطوي على ضوابط تحد من مزاجية الفرد الحاكم وميله إلى "الاستبداد". ليس الغرض هنا الكلام عن الأنظمة المستبدة ولا عن "الاستبداد الشرقي"، الغرض هو التأمل فينا والحديث عن استبدادنا نحن، الناس العاديين والضحايا الأزليين لاستبداد أنظمة الحكم. ففي كلٍّ منا مخزون، قليل أو كثير، من الميل إلى مصادرة حرية الآخرين، وحين يلتقي هذا الميل مع قوة كافية لتحقيقه، نكون أمام شخص مستبد. الإنسان الطبيعي غير "العاجز" والخالي من "العلل" هو، إذا صحّ ما يذهب إليه الشاعران، إنسان ظالم ومستبد.

لا يحتاج المرء إلى أكثر من ملاحظة يومية ليكتشف أن الإنسان، في الغالب، لا يحترم حرية غيره ما لم يكن ثمة رادع. كما أن هذا الإنسان نفسه يميل إلى التخلي عن حريته أمام مَن هو أقوى وفق تسلسلٍ يُظهر الاستبداد كأنه روح المجتمع ومضمون كل ظاهر فيه. هل هي طبيعة بشرية فعلاً أم هو تطبّعٌ فرضه الاستبداد المزمن في نفوسنا؟ هل باتت نفوسنا تدمن الاستبداد العام، وتنسحب إلى محيطها الخاص لتمارس فيه استبدادها (الأب على عائلته، والأخ الأكبر على أخوته، والأم على بناتها، ...الخ)؟ قد يكون من المنطقي الربط بين هذا الاستبداد الخاص وبين الاستبداد العام، ذلك أن طرد الفرد من المجال العام وحرمانه قسراً من تحقيق "عموميته"، أي مواطنيته، يولّد لديه ميلاً إلى ممارسة سلطة عامة في مجاله الخاص، فيحاول أن يستنسخ صورة الحاكم المستبد على "رعيته" الخاصين مستفيداً مما يتاح له من وسائل الاستبداد: المال (بما أنفقوا)، أو القوة العضلية، أو قوة العرف الذي يقضي باحترام الكبير ...الخ. هذا شبيه، وإن كان على مقياس ميكروي، بالاستبداد العام. إنه حيازة سلطة باستخدام شكل من أشكال القوة. ضحايا هذا الاستبداد هم الأفراد الأكثر نزوعاً إلى التمرد. هؤلاء يجري ضبطهم بواسطة وسائل الضبط المتاحة في حوزة "مستبدّهم الشرعي".

في التجمعات التي تفرضها الحياة العامة، كما في المدارس وأماكن العمل والسجون، يظهر مستبدون غير رسميين (لا يحققون استبدادهم بفضل صلة رسمية لهم بالدولة، أي ضحاياهم ليسوا مرؤوسيهم) وغير شرعيين (لا سلطة أخلاقية أو اجتماعية لهم على ضحاياهم). مصدر تسلط هؤلاء، يأتي من قوة جسدية يستثمرها الشخص في ترهيب زملائه والتعدي على حرياتهم (كما في المدارس)، أو من تفوق اجتماعي (غنى أو شهادة أو عائلة) يترجمه الشخص، حين يكون لديه هذا الميل، سلطةً على مَن يشعرون بدونية تجاهه، أو يأتي من سمة شخصية مثل الذكاء أو القدرة على السخرية من الناس، الشيء الذي يجعلهم محدودي الحرية في حضرته خشية أن يتحولوا إلى موضوع سخرية. نجد أن كل ما يمكن أن يتحول إلى سلطة عند شخص ما، يتجه إلى تقليم حرية الآخر وتقييده. ضمن هذا النوع من الاستبداد يندرج الابتزاز، حين تتحول معلومة أو مستمسَكٌ ما يمتلكه شخص ضد شخص آخر، إلى سلطة بيد الأول يكبل بها الثاني ويقيد حريته.

إلى ما سبق، هناك شكل من الاستبداد أقل صلابة لكنه لا يقل قسوة. هذا الشكل يعيش في بيئة العلاقات غير العضوية التي تتيحها الصداقة والحب. هنا لا يملك الأفراد سلطات، بعضهم على بعضهم الآخر، فهي علاقات اختيارية متكافئة خالية من القسر وقابلة للتغيير. لكنها في الواقع غير بريئة من الاستبداد. وسائل الفرد في ممارسة نزوعه الاستبدادي هنا شديدة التنوع، تجمعها غاية واحدة، الحد من حرية الطرف الآخر في العلاقة وتحويله قدر الإمكان إلى رهينة لخيارات الفرد النازع للاستبداد. ضحايا هذا النوع من الاستبداد هم الأفراد الأقل تمرداً والأكثر تسامحاً، على عكس الأنواع السابقة التي تعمل بشكل خاص على "تأديب" المتمردين. في النوع الناعم من الاستبداد، نكون أمام شخصين لا يملك أحد منهما سلطة "شرعية" على الآخر، لأحدهما نزوع استبدادي لا يتحقق إلا باستجابة الطرف الآخر. الطرف الآخر يستجيب تحت ثقل حبه (الحب يذلّ)، أو حرصه على الصداقة. على هذا، فإن المستبد الناعم يستخدم المشاعر الإنسانية الأجمل كوسيلة استبداد، وذلك لا يعبّر عن عدم تقديره لهذه المشاعر، وقد يكون ممن يكتبون المطوّلات في تقدير الحب والصداقة، بل يعبّر عن "فطرة" استبدادية تبحث عن التحقق.

قلائل هم مَن يحترمون حرية غيرهم حين تكون لديهم القدرة على الحد من هذه الحرية. احترام حرية الآخر طبع في الشخص لا تجلبه الثقافة، بل ربما كانت ثقافة المرء وسيلة إضافية لتعزيز قدرته على تحقيق استبداده الشخصي. فوق هذا، لا يبدي الشخص ذو النزوع الاستبدادي حرصاً أكبر على حريته في وجه مَن هو أقوى منه، ولعل في هذا إحدى ركائز الاستبداد العام في مجتمعنا.