Toboupost تبوبوست

View Original

بعد أن أصبحت سلة غذائها رهينة ساحة حرب في أوروبا: أين القمح في اقتصاديات الدول العربية؟ وما هي فرص التغيير؟


·

بالإضافة إلى الأهمية الكبيرة للطاقة في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، فإن الحرب بينهما هي في الواقع حرب بين المنتج الأوّل (روسيا)، والمنتج الرابع للقمح (أوكرانيا) على مستوى العالم.. وهذا يعني أن غذاء شعوب معظم بلدان العالم، وخصوصا منها الدول العربية، قد أصبح مرتهنا لتفاعلات هذه الحرب ولتطوراتها، بل ليس غذاءها فحسب، إنما كذلك أسواقُها ومصانعُها وأسعارُها وميزانياتُها ذات الصلة بالغذاء، ومقارباتُها الخاصة بالأمن الغذائي.

هذا الوضع الذي لم يكن بعيدا عن التوقعات نظرا للطبيعة الخاصة للعلاقات الروسية الأوكرانية منذ عقدين من الزمن على الأقلّ، يدفعنا إلى التساؤل عمّا يجعل الدول العربية تنتظر حتى تقع في مشكلة من هذا القبيل، رغم كونها قد جرّبت في الواقع أزمة مشابهة في مرحلة سابقة وهي كارثة تشيرنوبل النووية، التي ألحقت أضرارا كارثية على تربة المساحات الزراعية الأوكرانية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، لكن غياب البدائل جعل العرب وكثيرا من الدول الأخرى ذات المنظومات والقيود الرقابية الصحية الهشة والمتساهلة، تستمر في استيراد كميات ضخمة من استهلاك شعوبها من القمح من هذا البلد، أو من البلدان المجاورة له، رغم يقين الباحثين والخبراء من خطورة الأمر، ومن أغراض تكثيف أوكرانيا وجيرانها زراعة القمح باعتباره ممتصّ جيد للمخلفات الإشعاعية، مما يجعل زراعته شكلا مُربِحاً من أشكال تنقية التربة المُشعّة بسبب انفجار تشيرنوبل!!

هل كان العرب قبل تشيرنوبل وبعدها قادرين على إنتاج احتياجات شعوبهم من القمح كي يتجنّبوا التبعية الغذائية في هذا المنتج الاستراتيجي؟ الإجابة قطعا "نعم"، فهم يتمتعون بإمكانيات تمويل متميزة، ويمتلكون أراضي وسهولا خصبة في السودان، ومياه وفيرة في صعيد مصر، وفي شمال أفريقيا وسهول الشام تكفي مئات الملايين من مستهلكي الحبوب، وتضمن لهم مكانة طلائعية في ترتيب الأمم المنتجة والمصدّرة على مستوى العالم!!

فما الذي جعلها تضع نفسها بين براثن المتاجرين والغشّاشين والمحتكرين في العالم؟ وتدفع الموارد والمليارات لاقتناء ما تتمتع بالقدرة على إنتاجه، إذن؟ وما الذي أوصد هذا الباب المرُبح أمام مستثمري العرب الذي يتاجرون في المحرّمات ويستثمرون في المحطات والمواقع الإباحية ونوادي القمار ويوظفون المليارات في شراء نوادي كرة القدم والعقارات في بلدان الغرب ربما كان تدرّ أرباحا أقلّ بكثير من الاستثمار في قطاع الزراعات الغذائية؟

الأمر ليس بهذه البساطة، فهنالك إرادات مختلفة تحول دونه.. وهنالك من الحقائق ما يجعلك تؤمن أن هذه الدويلات المتناثرة في منطقتنا ليست سوى كيانات كرتونية معادية لشعوبها..

أما الإرادة الأولى، فهي إرادة سياسية غائبة لدى قيادات العرب بفعل خضوعهم للإملاءات من الدول العظمى المصدّرة لكي تحتكر الأسواق وتتحكم في الأسعار وتسيطر على قرارات الدول التابعة.. فنحن هنا نتحدث عن "امبريالية غذائية"، فنجد الولايات المتحدة، وروسيا وأستراليا وكندا، وبلدان أوروبية أخرى مهيمنة على أسواق التداول والتصدير.. وكثيرا ما تفرض عليها "توازنات" الأسواق ومعادلة العرض والطلب أن "تلقي بجزء من فائض منتوجها في البحر" مثلما دأب الأمريكيون على فعله مرارا عديدة كي يسيطروا على الأسواق، وعلى مجال "المساعدات".

أما الإرادة الثانية، فهي إرادة فاسدة منحرفة متربّحة تسكن النخب العربية المتمكنة والمتغلغلة في مفاصل الحكومات وداخل الأنظمة الحاكمة، والتي لا مصلحة لها في إنتاج القمح أو تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، أو حتى في صون الأمن الغذائي لبلدانها.. فهذه النخب الاقتصادية المتحالفة مع بطانات الحكم وسماسرة القصور تتقاضى الملايين مقابل التوسط في صفقات الاستيراد، وتحوّل إلى حساباتها نسباً خيالية من العمولات مع إبرام كل صفقة، مما يكبّد خزائن المال العام أضعاف القيمة الحقيقية لهذه المشتريات..

أما الإرادة الأجنبية المتآمرة فهي تشتغل على جانب آخر لا يقلّ خطورة واستراتيجية عمّا أسلفتُ. فهي تتخوف من فكرة إنتاج البلدان العربية ذات الثروات الطبيعية الوفيرة للقمح ولاحتياجاتها الغذائية بشكل عام، لأن ذلك يعني أنها ستتمكن من مراكمة أرصدة ضخمة من السيولة المالية بما يجعلها تطمع في استقلالية الموقف والقرار، وتتقلص حاجتها إليها وتتضاءل تبعيّتها بالنتيجة.

وهذا ما يجعلنا اليوم أمام لوبيات محلية ودولية متنفذة ومتحالفة موضوعيا نجحت بجرائمها في تكريس أمر واقع وهمي هو عجزنا عن إنتاج قُوتنا اليومي.. وعمّقت التبعيّة السياسية بتبعية غذائية حوّلتنا إلى مستهلكين بائسين لأردأ المنتجات، فامتصّت السيولة ونهبت الثروات، وأغرقتنا في المخاوف الأمنية بفعل غضب الشعوب وخوفها على مستقبل أقواتها، وهذا بدوره جعل الأنظمة مرتعبة من كوابيس التمرّد والثورات، فأنفقت في شراء السلاح ووسائل قمع الناس ما كان يمكنها أن تنفقه في زراعة القمح وتأمين غذائهم، وانتهى بنا الأمر إلى حال كارثي، فلا نحن جائعين ولا نحن مكتفين، ولا نحن محتلّين ولا نحن مستقلّين.. بل مجرد دويلات وقطعان تائهة -أجلّكم الله- تعيش ليومها بلا تخطيط ولا استشراف..وتحولت حياة المواطن اليومية إلى صراع مرير أفْقَدَه الارتباط بعالمه وضرب في داخله قيما أصيلة كالتعلق بالموطن والولاء للبلدان والاستعداد للدفاع عن الراية، ليس لفساد في جوهره، بل نقمة على الذين يقودونه، وكُرهاً في الذين تسببوا له في معاناته بفسادهم وجهلهم وسوء حوكَمَتِهِم..

هل يمكن تغيير هذا الوضع؟ وما هي فرص تجاوُزه؟

لا يمكننا الجزم بذلك في الوقت الراهن.. فكما نحن تابعون في أقواتنا، نحن أيضا تابعون في مستقبلنا وقرارنا.. لكن مخرجات أي نزاع موسّع ينبثق عن الحرب الراهنة ليشمل دول البلطيق والقوقاز وربما البلقان وغربي أوروبا، قد يكون حاسما في تغيير واقعنا وأوضاعنا، إما نحو التحرر وإما نحو مزيد التبعية.. وللحديث

…محمد الامين—ليوان ليبيا .