الحرب النفطية الليبية الثانية
مقال وتحليل :
الحرب النفطية الليبية الثانية.. النفط الممزوج بالدم بين المصالح والمخاوف
أبت المعركة النفطية الثانية في ليبيا إلا أن تُحسَم بالتي هي "أسوأ"، ككلّ مرة منذ ذهاب الدولة.. اضطر الليبيون إلى إنقاذ حدود الهلال النفطي بالنار وبالدم مرة وأخرى، لكنها لن تكون بالقطع المعركة الأخيرة، أو الجولة الأخيرة في الصراع على الثروة.
كنا نتحدث عن اجتياح واجتياح مضاد، واحتلال وتحرير، وعن عصابات ومرتزقة وتشكيلات عسكرية وتحشيد .. لكن التوصيف الذي خلتْ منه الأذهان بالفعل هو أن الأمر يتعلق بحروب متجددة سِمتُها الأهمّ هي أن النفط قد أصبح رهانا وسلاحا يُوظف في السياسة كأوضح ما يكون منذ أعوام.
ظاهر الأمر هجوم الجضران.. وتأويله محاولة لفرض أمر واقع سياسي وامني وميداني ربّما يفضي إلى عرقلة اتفاق باريس ويعرقل المراحل والاستحقاقات المرتقبة في إطاره، ويمدّد في أنفاس بعض الشخوص والكيانات والمكونات التي ترى أن المواعيد السياسية المقبلة سوف تجلب لها كوابيس مروعة تقيم الدليل على انهيار شعبيتها وتقهقر مستوى تأثيرها في الشارع وفي الرأي العام بعامّته ونُخبه.
هذا التفسير عززته بعض التحركات الإقليمية والمحلية التي نُقِل أنها قد تفاعلت ايجابيا مع هجوم الجضران.. لكن في غياب الأدلة لا يمكن الجزم بأمور كهذه وبناء تحليلات ومواقف على أساسها..
ولقد دفعت حالة التذبذب وتصاعد الشائعات حول الجهات الراعية لعملية الجضران أطرافا كثيرة إلى إعلان براءتها منه.. تابعنا صدور بيانات وتصريحات وردود فعل دبلوماسية وسياسية وأجتماعية من الداخل والخارج أدانت في مجملها هذا العمل، فيما يشبه سحباً للبساط من تحت أقدام جهات طامعة عوّلت على تراخي الموقف الدولي لمحاولة رفع سقف المطالب والربط بين نزاع الهلال النفطي ومعارك الشرق [درنه].
وبالإضافة إلى الموقف الايطالي المُحرَج، والموقف البريطاني القوي على غير المعتاد، والموقف الفرنسي الغاضب لاحتمالات انهيار اتفاق باريس وسقوط جدوله الزمني.. فإن الموقف الأمريكي بالتحديد كان حاسما سواء على مستوى الإدانة أو إعلان العزم على التصدي الفعلي لعملية الاستيلاء على الموانئ النفطية..
العامل الأكثر تأثيرا، والذي أرغم الأطراف الدولية على اتخاذ هذه المواقف، هو عامل داخلي بامتياز، وأنا أعتبره نقطة تحول مفصلي في المشهد الميداني والسياسي في هذه الآونة.. فقد كنا طوال الأيام الماضية إزاء حالة التفاف إعلامي وشعبي وسياسي حول المؤسسة العسكرية صنعت الفارق مقارنة بأزمات سابقة.. وهذا ما أدى إلى إسقاط الرهانات على الوضع الميداني الذي أنتجه اجتياح الجضران وحصر تأثيره في الخسائر المادية وبعض الخسائر البشرية..
الجضران انهزم، وفرّ، ولا أحد يعلم إلى سيتجه وأية حاضنة ستقبل بوجوده بعد أن ضاقت به الأرض بما رحُبت؟ وربّما سوف تجيب وجهة الجضران عن سؤال حائر حول هوية الأطراف التي دعمته أو شجعته أو سلحته؟؟ فلننتظر..لكن.. هنالك الكثير مما يجب الانتباه إليه..
هزيمة الجضران أسقطت مخططا لحرب أهلية تقسيمية تنتكس بمسارات التسوية إلى الخلف.
هزيمة الجضران أعادت تحجيم مكونات جهوية قبلية وإقليمية، وستجعلها تتصرف بأكثر تواضع في مستقبل المراحل.
لكن هزيمة الجضران لن تقضي على الحرب النفطية، فهي بالتأكيد مجرد جولة من جولات هذه الحرب.
انتصار الجيش الليبي قد أنهى الجولة لكنه لم يحسم الحرب.. أنهى ظاهرة الجضران، لكنه لن يُنهي واقع الانقسام المتجدد مع كل ظهور لجضران آخر..
الحكمة اليوم هي في استثمار النصر العسكري وهزيمة الجضران لتوحيد البلد الذي قسمه النفط.. فنحن أمام معطى في غاية الأهمية، وهو عدم القدرة على سحب العامل النفطي من المعادلة الأمنية والاقتصادية والسياسية في ليبيا..
لكي يكون النفط محايدا، ينبغي أن يكون ملكا للجميع بالفعل وليس بالشعارات المجردة.. ولكي يكون النفط للجميع، ينبغي أن يكون هنالك حل سياسي مستدام.. فقد يكفل السلاح حل معضلة أو اثنتين لكنه بالتأكيد سيفشل أمام معضلات كثيرة، وسيزيد في إذكاء صراعات كثيرة بدل حلّها..