Toboupost تبوبوست

View Original

انقلاب النيجر وخفايا الصراع الجيوسياسي في المنطقة؟

انقلاب النيجر وخفايا الصراع الجيوسياسي في المنطقة

وكأن النيجر الواقعة في الترتيب الـ 189 من أصل 191 على مؤشر التنمية البشرية، لا ينقصها سوى انقلاب جديد ولم تكن تكفيها علاتها الاقتصادية والإنسانية وهي التي يعيش 73% من سكانها في حالة فقر متعدد الأقطاب بسبب تدني مستويات السكن والصحة والتعليم والدخل والسلامة، وفق تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية للعام 2021/2022.

ديمقراطية إلى حين...

على عكس الديمقراطيات الطبيعية المتعارف عليها في الغرب، يشكل الرؤساء الأفارقة، حتى المنتخبين منهم، هدفاً سهلاً لكل من يشتهي السلطة ويقدر على انتزاعها بالقوة. ونتيجة التراكمات التي خزنتها الذاكرة الجمعية على مدى عقود من الصراعات الدموية والظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية في معظم دول القارة، بالإضافة إلى التركيبة المجتمعية المعقدة والمتعددة الأعراق والإثنيات، تضطلع المكونات العسكرية في افريقيا بأدوار مختلفة عما هي عليه في الدول المتقدمة، وتتمتع بمكانة لدى المجهور، الذي يختار في أحيانٍ كثيرة مساندة الانقلابات العسكرية ويعتبرها تصحيحاً لوضع سياسي غير مرضٍ، أو ينفض يده ولا يُظهر أي نوع من الدعم لرئيس انتخبه بنفسه، كما هو الحال في النيجر اليوم، حيث اعتاد المواطن على فوز الأقوى سلاحاً وليس بالضرورة الأكثر قدرة على حصد أصوات الناخبين، وهو ما يضع مصداقية الديمقراطية وشرعيتها محل تساؤلات، لا يمكن أن تتفهمها أو تقبل بها الدول المتقدمة التي تعيش تنافساً استراتيجياً محموماً في أفريقيا وتواجه نفوذاً روسياً وصينياً متنامياً.

النيجر بعد الانقلاب :ما السيناريوهات المتوقعة؟

النيجر تعد حالةً متفردة في "موسوعة الانقلابات الأفريقية"، لا سيما مع ما حدث مؤخراً في دول الساحل وغرب افريقيا، مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري. فعلى سبيل المثال، وصول الكولونيل أسيمي غويتا على رأس السلطة في باماكو كان مسبوقاً بتحركات مدنية بينها الحشود التي جمعها الإمام محمود ديكو، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى في مالي، الذي تزعمما يُعرف بـ "حراك الخامس من يونيو" المعارض للرئيس المخلوع إبراهيم كيتا. أما في النيجر، لم ينتفض الشارع ضد الرئيس محمد باعزوم، ولم يُظهر الحرس الرئاسي أي نوايا انقلابية، خاصةً وأن رئيسه الجنرال عبد الرحمن تشياني مقرب من الرئيس السابق محمدو يوسفو الداعم لـ "باعزوم"، والذي ظل يتمتع بصلاحياته حتى بعد انتخاب رفيقه الحزبي. كما أن الانقلاب الأخير، وهو الرابع في النيجر خلال العقدين الأخيرين، جاء سلمياً وسلساً إلى حدٍّ أثار العديد من التساؤلات بشأن الخطوات والترتيبات التي قادت إليه. كما أن السواد الأعظم من النيجريين اكتفوا بمقعد الأغلبية الصامتة وظلوا يتابعون مصير الانقلاب والرئاسة، حتى الآن المظاهرة الهزيلة التي خرجت غداة الانقلاب لتأييد الرئيس، تفرقت سريعاً من دون أضرارٍ كبيرة، تلتها مظاهرات لمؤيدي خلع الرئيس، كان بين صفوفهم مناهضون للوجود الفرنسي، وآخرون حملوا الأعلام الروسية.

انقلاب بدأ بلا قيادة واضحة

رغم أن الحرس الرئاسي في النيجر اعتاد على قيادة انقلاباتٍ سابقة، لكن هذا الانقلاب تفرّد بكونه بدأ من دون قائد معروف وذي شعبية جماهيرية، بل تحدث بعض المقربين من الرئيس محمد باعزوم عن خلافاتٍ بين الانقلابيين بشأن اسم القائد، قبل أن يتم تعيين الجنرال عبد الرحمن تشياني كـ "قائد النيجر القوى الجديد".

برز اسم تشياني، قائد الحرس الرئاسي، منذ اللحظة الأولى لانقلاب النيجر. لكن تلك الشخصية المتحفظة الصامتة التي لم تُلفت الانتباه إليها طيلة عقدٍ من الزمن. لكن يبدو أنه مثلما نجح في كسب ثقة الرئيس السابق محمدو يوسفو، استطاع تكوين شبكة علاقاتٍ نافذة في جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، مما ساهم في اقناع تلك الأجهزة بتأييد الانقلاب.

وتتحدث بعض الأنباء عن أن الرئيس محمد باعزوم كان ينوي تغيير مجموعة من القيادات العسكرية والأمنية ومن بينها "تشياني"، وهو ما تسبب في تحرك الحرس الرئاسي لخلع الرئيس استباقاً لتلك التغييرات التي بدأها باعزوم في ابريل/نيسان 202، عندما أعلن تعيين قائد أركان جديد لقوات النيجر هو الجنرال دو ديفيزيون عبده صديقو عيسى، الذي حل محل الجنرال ساليفو مودي، الذي تولى هذا المنصب منذ عام 2020.

حساسيات إثنية

التركيبة الاجتماعية النيجرية لا تقل تعقيداً وتنوعاً عن بقية الدول الأفريقية، ولها تأثير على المشهد السياسي في النيجر، حتى وإن كان الساسة لا يعترفون بذلك علناً حتى لا تهتز الصورة الديمقراطية التي يرسمونها ويشيد بها الغرب.

قائد الحرس الرئاسي في النيجر يبرر الانقلاب بـ"تدهور الوضع الأمني

ويتنوع النسيج الاجتماعي في النيجر يشمل عدة قبائل وإثنيات بينها عرب وطوارق وتبو وتماشيك وكانوري وفولاني وزرما وهوسة. وهاتان الأخيرتان ينتمي إليهما الكثير من السياسيين والعسكريين.

وعشية تنصيبه، تعرض محمد باعزوم، ذو الأصول العربية الليبية، لمحاولة اغتيال فاشلة في مارس/آذار من عام 2021، وهو الذي عرض اعتراضاً على ترشحه للرئاسيات، بسبب انتمائه لقبيلة عربية. وكان على رأس المعترضين منافسه حينها محمد عثمان، الذي كان أول رئيس منتخب للنيجر، واتهم باعزوم بالمشاركة في محاولة لاغتياله في التسعينات، احتجاجاً على أصوله غير النيجيرية التي لا تؤهله كي يكون مواطناً كاملاً. ولا عجب إذا عرفنا أن محمد عثمان هو ابن قبيلة الهوسة التي تشكل 50% من سكان النيجر وينحدر منها رئيس الحرس الرئاسي الجنرال عبد الرحمن تشياني، والموجودة في أبرز ثلاث مناطق جنوبي-غرب النيجر هي تيلابيري حيث العاصمة نيامي، ودوسو وتهوا، أي المناطق التي يتركز فيها جزء من ثروات البلاد، وبينها الذهب. كما تتواجد في تلك المناطق قواعد عسكرية أمريكية وفرنسية وألمانية، وتنشط فيها جماعات إرهابية موالية لتنظيم الدولية الإسلامية في الصحراء الكبرى، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين.

انقلاب النيجر: تغيير داخلي بنكهة روسية؟

توقيت الانقلاب على الرئيس محمد باعزوم، والذي تزامن مع انطلاق قمة "روسيا-أفريقيا" في سان بطرسبورغ، وظهور الأعلام الروسية شيئاً فشيئاً في صفوف مؤيدي الانقلاب، جعل من الأنظار تتجه نحو موسكو ودورها في العملية الانقلابية. كان ذلك في مرحلة التكهنات والتحليلات، قبل أن تنشر "رابطة الضباط من أجل الأمن الدولي" التي تعتبرها الولايات المتحدة واجهة لمجموعة فاغنر في إفريقيا الوسطى، تسجيلاً صوتياً نسبته ليفغيني بريغوجين، يؤكد فيه أن محاولة الانقلاب في النيجر "كفاح ضد المستعمرين"، هذا المصطلح الذي استخدمه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في جولتين في القارة السمراء هذا العام 2023، تحدث خلالهما عن تشكيل حصن في وجه "الإمبريالية" و"الاستعمار الجديد" الغربي.

من ناحية، كان بديهياً أن ترتد الانقلابات التي عرفتها دول المنطقة على الوضع القائم في النيجر رغم استقراره النسبي، ومن ناحيةٍ أخرى، كانت موجة رفض الوجود العسكري الغربي آخذة في التمدد داخل النيجر، رغم نفي الرئيس محمد باعزوم لذلك في أكثر من مناسبة ولقاء على قنوات فرنسية. وآخر مظاهر ذلك الرفض تمثلت في المظاهرة التي اصطدمت برتل لقوات "باركان" الفرنسية في منطقة "تيرا" النيجرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حين سقط ثلاثة قتلى في صفوف المتظاهرين وأحدث ذلك ضجة إقليمية ودولية وموجة غضبٍ داخلية.

وربما اضطرار النيجر للتعاون عسكرياً مع الحكام العسكريين في مالي وبوركينا فاسو، لعب دوراً في استمالة بعض القيادات الأمنية والعسكرية. فرغم استهجان أوروبا، وعلى وجه الخصوص فرنسا، لقبول محمد باعزوم التعاون مع باماكو وواغادوغو، إلا أن الرئيس النيجري المخلوع، في مقابلة على فرانس 24 في يوليو/تموز عام 2021، قال "إن الدول الثلاث يجمعها هم مشترك، وهو مكافحة الإرهاب"، خاصة وأنها تلتقي عند ما يُعرف بـ "مثلث الموت"، المنطقة الحدودية التي تنشط فيها الجماعات الإرهابية والعصابات.

ابق على اطلاع دائم بالأخبار الدولية أينما كنت. حمل تطبيق مونت كارلو الدولية

النيجر ساحة تجاذب وتوسع دولي

النيجر رغم ما تعانيه من علّات داخلية وفقر يطال أقل بقليل من نصف سكانها، إلا أنها تمتلك ثروات طبيعية ومعدنية متنوعة، وبالأخص اليورانيوم الذي تمتلك نيامي رابع احتياطي منه، بعد كازاخستان وكندا وأستراليا، لكن بجودة عالية هي ما تميز انتاجها عن غيره. ويُضاف إلى ذلك النفط والذهب والفحم والفضة، وكلها قطاعات تجذب استثمارات من عدة قوى دولية غربية بالإضافة إلى الصين وروسيا وتركيا وحتى إيران. واللافت أن حتى القواعد العسكرية الأجنبية تتوزع بشكل على يتبع مناطق نشاط الجماعات الجهادية فقط، ولكنها تقترب من الأقاليم الغنية بالثروات الطبيعية. ولذلك لا يتوقف الأمر عند القواعد العسكرية الفرنسية والأمريكية والألمانية، فحتى وزير الخارجية التركي السابق مولود تشاووش اوغلو، خلال زيارة إلى النيجير في يوليو/تموز عام 2020، بحث مع سلطة نيامي إنشاء قاعدة عسكرية تركية بالقرب من الحدود مع ليبيا، وتحدثت أنباء عن تقدم الإمارات بطلب مماثل.

لكن الثروات الطبيعية التي تشكل أحد أسباب اهتمام القوى الدولية بالنيجر، تعد في الوقت نفسه من بين العوامل التي تدفع بقسم من الشعب إلى رفض الوجود الغربي، لأن قطاع انتاج اليورانيوم على سبيل المثال، الذي تغطي صادراته من النيجر أكثر من 30% من احتياجات فرنسا، لا يساهم بأكثر من 10% في التوظيف، ونحو 16% من اجمالي الناتج المحلي في النيجر. والنفط الذي يساهم بحوالي 25% في اجمالي الناتج المحلي النيجري، بلغت عوائده 13.6 مليار دولار عام 2020، بحسب البنك الدولي، من دون أن يرى المواطن انعكاس ذلك على وضعه المعيشي وقدرته الشرائية ومعدل تعليمه ومستوى صحته. مما زاد من حنق النيجريين وغضبهم، وسهّل مهمّة مروّجي البروباغاندا المناهضة للوجود الغربي بشكل عام، والفرنسي بشكل خاص.

واليوم، في حال نجاح هذا الانقلاب واستمر، كما حدث في مالي وبروكينا فاسو وغينيا كوناكري، ستفقد فرنسا آخر حليف في المنطقة، وستكون روسيا قد سددت ضربة خلفية للقوى الغربية من خلال سيطرتها على ممرات عسكرية جوية وبرية عامة من شرق ليبيا إلى غرب السودان مروراً بوسط افريقيا والنيجر ومالي وبوركينا فاسو وصولاً إلى غينيا، بأقل ثمن ممكن، اعتماداً على أشخاص وليس على دولة ونظام، ومن دون تقديم مساعدات مالية كتلك التي تقدمها الولايات المتحدة وفرنسا. وقد تتعاون مع الصين لتقاسم الأدوار بين من يقدم الدعم العسكري ومن يقدم القروض والمشاريع التنموية والتكنولوجية.