المصارعة في النيجر.. تقليد لإثبات أن القُرى شبعتْ
زندير -
زندير، ثاني أكبر مدينة في النيجر، احتلها المصارعون التقليديون مطلع العام الجديد، في سباق محتدم من أجل الفوز بسيف النصر في واحدة من أكثر الرياضات التقليدية شعبية في النيجر وبقية بلدان الساحل الأفريقي.
أكثر من 128 مصارعاً، يرتدون زيهم التقليدي المميز، الذي يكشف من الجسد أكثر مما يستر، ويحمل الكثير من التمائم وأسلاك السحرة والمشعوذين، فالتنافس لا يتوقف عند عضلات المصارعين، وإنما يتجاوزه إلى تنافس محتدم بين الشيوخ والمشعوذين، بين الديانات المنتشرة في المنطقة، وبين عرقيات وثقافات متعددة.
كل هذه الفسيفساء اجتمعت في مدينة زندير، لتشكل عرساً كبيراً حضره قرابة نصف مليون شخص، هم سكان المدينة والكثير من الوافدين من شبه المنطقة، لحضور أكبر مسابقة للمصارعة التقليدية في منطقة الساحل الأفريقي، دأبت النيجر على تنظيمها كل عام.
سيف النصر
تستمر المسابقة على مدى عشرة أيام، في الصباح والمساء يتسابق 128 مشاركاً قدموا من مختلف ولايات النيجر البالغ تعدادها ثمانية ولايات.
حاولت كل ولاية أن تقدم خيرة مصارعيها الشبان، من أجل الظفر بـ”سيف النصر” الذي هو أعلى مراتب القوة والنفوذ في هذه الرياضة ذات الشعبية الكبيرة في النيجر، وتسعى كل ولاية للظفر به من أجل التفاخر به طيلة عام كامل أمام بقية الولايات.
يحتدم التنافس، ويرتفع مستوى العنف في المسابقة كلما تقدمت، فيما يرتفع مستوى الدعم والحضور الجماهيري، ويلاحظ ارتفاع أسهم السحرة والمشعوذين وهم يطلقون الوعود والتوقعات قبيل كل مباراة، محاولين بذلك استدرار جيوب المشجعين.
بالإضافة إلى “سيف النصر” سيحصل الفائز في البطولة على شيك بمبلغ عشرة ملايين فرنك غرب أفريقي، وهو ما يعادل 20 ألف دولار أمريكي، مع مئات الجوائز التي تقدمها له الشركات الراعية للبطولة، وهي شركات استثمرت في هذه الرياضة لشعبيتها الكبيرة.
شبعوا فتصارعوا
لقد ارتبطت المصارعة التقليدية عند سكان النيجر بموسم الحصاد، وهم في أغلبهم مزارعون عند ضفة نهر النيجر، ويشير المؤرخون إلى أن هذه الرياضة بدأت منذ عدة قرون، عندما كانت كل قرية بعد الحصاد تحاول أن تثبت أنها شبعت أكثر من بقية القرى، وأن أهلها عملوا بجد أكثر، فكانت مصارعة الشبان هي السبيل إلى ذلك.
تختار كل قرية مجموعة من الشبان من ذوي البنية الجسدية القوية، وتلتقي القرى في مكان محايد، غالباً ما يكون أرضاً منبسطة على مسافة واحدة من جميع القرى، كل فريق يدعم بالشيوخ والمشعوذين، ومجموعة من الفنانين والطبالين، ويبدأ التنافس لينتهي بفوز مصارع واحد تصبح قريته هي الأكثر شبعا من غلة حصاد موسم ذلك العام، ويكون ذلك الشاب مفخرة للقرية، وتحسده بقية القرى.
في عام 1975، عندما وصل المجلس العسكري إلى الحكم بانقلاب عسكري، سأل أحد أعضاء المجلس عن الرياضة الأكثر شعبية والتي يمكن أن تجمع الشباب، وتقربهم في ما بينهم، وتشغلهم عن السياسة والشأن العام، فاتفق المجتمعون على أنها رياضة المصارعة التقليدية.
نظمت أول بطولة وطنية للمصارعة التقليدية في نفس العام (1975) في مدينة تاهوا، وهي مدينة صغيرة تقع على بعد 500 كيلومتر من العاصمة نيامي، وفاز بالبطولة آنذاك مصارع من المدينة المستضيفة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت متابعة المصارعة التقليدية شغف سكان النيجر.
ويقول مالم بركا، وهو المدير الفني للفدرالية النيجرية للمصارعة والمدير الفني للجنة العالمية للمصارعة الأفريقية في تصريح لـ”صحراء ميديا”: إن “المصارعة لها مكانة مهمة جدا عند جميع النيجريين، فعندما تبدأ إحدى مباريات بطولة المصارعة لا يمكن أن ترى أحداً يعمل، الكل يتابعها بشغف كبير”.
ويضيف بركا: “لقد بدأت المصارعة لإثبات أي القرى أكثر شبعاً من الحصاد، وتحولت اليوم إلى شغف يجمع أهل النيجر كافة”، على حد تعبيره.
انتشار إقليمي
خلال العقود الأخيرة تحولت المصارعة التقليدية إلى الرياضة الأولى في مناطق عديدة من القارة الأفريقية، وبشكل خاص في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وذلك بسبب توجه رسمي لدعمها والترويج لها كجزء من التراث.
يقول المدرب علي زانغينا، وهو مدرب فريق (تاهوا) للمصارعة الفائز بلقب بطولة النيجر العام الماضي: “المصارعة التقليدية بدأت بسيطة بين القرى، ولكن حب الشعب لها جعلها تتطور كثيرا، وكانت النيجر أول دولة جعلتها بطولة وطنية”.
ويضيف المدرب في حديث مع مراسل “صحراء ميديا” في مدينة زندير على هامش البطولة: “الآن أصبحت تنظم لها بطولات بشكل دوري في الدول الناطقة باللغة الفرنسية، وهناك دول تنظم بطولات المصارعة بشكل جيد مثل السنغال ونيجيريا وتشاد وغيرها، وهناك الدوري الأسود وبطولة الإكواس وبطولة أفريقيا، كما أصبحت عضواً في الفدرالية الدولية للمصارعة”.
سيف النصر
كان لافتاً في البطولة التي تنظمها النيجر سنوياً للمصارعة التقليدية، أن الفائز فيها يمنح “سيفاً” وليس كأساً أو ميدالية كما جرت العادة في بقية المنافسات الرياضية.
القائمون على هذه الرياضة التقليدية أكدوا لمراسل “صحراء ميديا” أنه عندما بدأ التخطيط لتنظيم أول بطولة مصارعة عام 1975، تم تشكيل هيئة من الخبراء وشيوخ القبائل لتحديد ملامح البطولة الجديدة والأولى من نوعها في المحيط الأفريقي.
اقترح أحدهم منح الفائز بالبطولة “كأساً” على غرار ما يحدث في بقية دول العالم، ولكن شيوخ القبائل اعترضوا على المقترح، مؤكدين أن الرياضة تقليدية ويجب أن يكون شعارها تقليدياً.
وخرجت هيئة الخبراء بالتوافق على مقترح من أحد شيوخ القبائل، وهو أن يكون “سيف النصر” هو شعار البطولة، ويمنح في نهايتها للفائز.
عصرنة المصارعة
في السنوات الأخيرة ظهرت تقنيات جديدة في المصارعة التقليدية، حتى أن بعض المتتبعين أصبح يخشى أن تفقد هذه الرياضة صفتها التقليدية، أمام هوس المدربين بالفوز.
عدد من المدربين المتأخرين أدخل تقنيات مقتبسة من الجيدو والكاراتيه والتايكواندو، وهي رياضات قتالية عالمية، نشأت في دول آسيوية، كاليابان والصين وكوريا.
ولكن هؤلاء المدربين يدافعون عن أنفسهم بالقول إنهم يأخذون من الرياضات القتالية العالمية ما يتناسب مع المصارعة التقليدية، من دون أن تفقد المصارعة شكلها التقليدي.
ورغم إدخال هذه التحسينات على المصارعة، إلا أن المصارعين يعتبرون كل ذلك لا قيمة له، لأن كل مصارع لن يفوز بفضل مهاراته وقدراته الجسدية فقط، وإنما يحتاج لـ”شيخ قوي” يدعمه بتمائم وحجاب يمنعه من السقوط على الأرض، وفي نفس الوقت يضعف خصمه ويجعله يسقط.
الشيخ/المشعوذ
يقول المصارع علي كاكا، وهو حامل اللقب في العام الماضي، والذي نال المرتبة الثانية هذا العام: “يحتاج المصارع لإمكانيات مادية من أجل الراحة النفسية واللياقة البدنية العالية، وأن يكون مدربا ومتمرسا”.
ولكن كاكا لا يتوقف عند ذلك الحد بل يضيف: “لا بد من الشيخ الذي يجب أن يكون ذَا كفاءة عالية من أجل أن يفوز المصارع، فلا يمكن الفوز مهما كانت قوتك بدون شيخ لأنه هو أساس الفوز”، وفق تعبيره.
أما المصارع ازاهيدو علي فيقول: “تحتاج المصارعة للقوة البدنية والتدريب جيد وشيخ ممتاز بالإضافة إلى الحظ”.
هذه المكانة التي يحتلها الشيوخ والمشعوذون لدى المصارعين، جعلت أيام البطولة تشكل موسم حصاد خاص بالنسبة للشيوخ والمشعوذين، إذ يغدق المصارعون ومحبوهم الكثير من الهدايا والإغراءات المالية من أجل النصر.
وفي النهاية يحظى الشيخ أو المشعوذ الذي تفوز ولايته، بشهرة كبيرة ويصبح ذا شوكة ونفوذ، فيأتي إليه كل من له حاجة يريد تميمة حظ أو سراً من أسرار النصر أو السعادة، إنه يصبح القبلة الجديدة في انتظار شيخ أو مشعوذ جديد يخطف منه الضوء.
مصارعة الجن
قوانين البطولة تمنع على الشيوخ أو المشعوذين حضور البطولة أو الاقتراب من حلبة المصارعة، فيبقوا في مكان مخصص لولاياتهم يمارسون الطقوس لجلب النصر عن بُعد.
يجلس الشيخ مالم ياكوزا، وسط مجموعة من الشيوخ داخل أحد الفصول المدرسية، إنهم يستعدون للشروع في الطقوس التي يعتقدون أنها مكنت فريق المصارعة الذي يدعمونه، من الفوز مرات عديدة خلال السنوات الأخيرة.
كان الشيخ مالم ياكوزا محاطاً بعدد كبير من الألواح الخشبية، ومئات المخطوطات القديمة والمهترئة، وخيوط الضوء الخافت المتسربة من النوافذ المغلقة تزيد من هيبة المكان.
يقول الشيخ لمراسل “صحراء ميديا” قبيل الشروع في الطقوس: “هنالك من يستخدمون الجن، أما نحن فلا نستخدم إلا القرآن الكريم، فنجد ما نحتاج إليه من أسرار داخل آياته وسوره”.
يضيف الشيخ بقدر كبير من الزهو والفخر: “نحن نفوز دائما لأننا نعرف ما يجعلنا نفوز، فنحن نستخرج من الآيات القرآنية أسرار قوتنا، ونستخرج حتى من الحطب أسرار قوتنا”، وفق تعبيره.
التفت الشيخ عن المراسل، وبدأ يقلب المخطوطات والألواح الخشبية، ردد بعض الكلمات والشيوخ، الذين هم تلامذته، يرددون من خلفه، فيما كان مصارعهم يجاهد من أجل النصر داخل حلبة بعيدة.