السؤال الليبي: سياسيون بلا سياسة ونخب بلا مشاريع؟
منقول عن ليبيا المستقبل (خليفة علي حداد):
كثيرا ما يحيل لفظ "السياسة" في المخيال الشعبي العربي إلى مدلولات الكذب والتحيل والنفاق والمداهنة والمغالطة والإنتهازية والغنائمية والقفز بين المراكب وتبدل المواقف وفق المصالح والأهواء.. من باب الموضوعية لابد من الإقرار بأن لهذا التأويل مبرراته ومرجعياته في التاريخ العربي القديم والحديث، إذ لم تكن السياسة عند العرب، في غالب الأحوال، إلا على هذا النحو.. ولم تكن ليبيا استثناء في سياقها العربي..
كان من المفترض أن يكون ميلاد الدولة الوطنية، اعتبارا من أوائل خمسينات القرن المنقضي، نقلة اجتماعية وحضارية وسياسية من واقع التخلف متعدد الأوجه إلى واقع أفضل، وأن تكون هذه النقلة وفق مشروع وطني بمضامين حداثية؛ يقطع مع التمثلات التقليدية في السياسة والحكم.. غير أن ذلك لم يحدث..
ظلت ليبيا، بثرواتها الطائلة، لأزيد من أربعة عقود رهينة نظام حكم مزاجي؛ موسوم بالدموية والتفرد بالسلطة والمقدرات، فلم يكن لهذه الثروات أثر يذكر على تغيير العقليات.. وبدل استثمارها في بناء الإنسان تحولت هبات الطبيعة إلى أداة تخريب سياسي واجتماعي تم بموجبها تفكيك الدولة ومؤسساتها وإفراغ الحياة السياسية من مضامينها؛ لتتحول إلى شعارات شعبوية وهتاف قطيعي هستيري للقائد الأوحد الذي لا شريك له؛ والذي لا أحد غيره يفكر أو يقترح أو يفهم أصلا..
لم تكن ثورة فبراير حدثا طارئا ولا مفاجأ وفق قوانين الاجتماع وسنن التاريخ.. إذ بمقدور الأنظمة الحديدية؛ الفاقدة للمشروعية، أن تكتم الأنفاس وتصادر الرأي وتلتهم المجتمع لوقت يطول أو يقصر لكن افتقارها لأي مشروع سياسي واجتماعي حقيقي سيضعها، عاجلا أو آجلا، في مواجهة أطياف اجتماعية واسعة لم تعد الشعارات تسمنها ولا تغنيها؛ وهي ترى مدارس بلا تعليم ومستشفيات بلا علاج، وتسويقا لمقولات الرفاه والرخاء والخير العميم وهي تكابد الفقر وتغرق في المعاناة.. أطياف صارت لديها الكفاءة الفكرية والثقافية لتسأل القائد و"هتّيفته": من أنتم؟
عوّل الكثير على التغيير السياسي الراديكالي الذي مثّلته ثورة فبراير للانتقال من مرحلة الشعارات الشعبوية والخواء السياسي إلى مرحلة جديدة تتحول فيها السياسة إلى تنافس بين المشاريع والمضامين التحديثية، وتتوسع فيها القاعدة الاجتماعية للمهتمين بالشأن العام والناشطين في المنظمات المدنية والأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية.. ومن باب الموضوعية، لابد من الإقرار بأن الفترة المبكرة بعد الثورة شهدت انتعاشة كبيرة للعمل العام كانت تبشر بتأسيس تدريجي لمشروع وطني يقطع مع عقود الفوضى وتفكيك الدولة..
عدّت انتخابات المؤتمر الوطني العام أول امتحان حقيقي للانتقال السياسي في ليبيا.. ورغم أن أجيالا كاملة من الليبيين لم تكن تعرف من أمر الانتخابات شيئا ولم تدخل يوما مركز اقتراع، فإن هذه المحطة شهدت حملات انتخابية وتنافسا سياسيا جيدا وإقبالا لافتا على صناديق الاقتراع.. ورغم أن عوامل ومرجعيات اجتماعية وقبلية وجهوية كثيرة كانت مؤثرة في مخرجات صندوق الاقتراع، وهذا أمر متوقع في مجتمع خرج للتو من منظومة استبدادية، فإن التصويت، في مجمله، كان تصويتا سياسيا، وأفضى إلى ظهور كتل وائتلافات داخل المؤتمر..
لم تكن النهايات من جنس البدايات.. إذ سرعان ما شهد المؤتمر الوطني العام تجاذبات وحسابات، بعضها يتحمله المؤتمر وبعضها الآخر بفعل السياق السياسي والأمني الذي أعقب الثورة والإرث الثقيل الذي تركه النظام، ليبلغ الأمر ذروته بالتشظي السياسي والمؤسساتي والاجتماعي الذي أعقب انتخابات مجلس النواب، سنة 2014، وظهور مؤسسات حكم موازية في المنطقة الشرقية..
بتعمق حالة الانقسام وتشعبها تراجعت أدوات السياسة لصالح السلاح، وتطور الصراع المسلح، بدوره، من مجرد انفلات أمني محلي في المدن بفعل انتشار السلاح والمجموعات المسلحة إلى اقتتال بعناوين جهوية وقبلية وبرعاية إقليمية ودولية.. وفي خضم الاختلاط في الأوراق الداخلية والخارجية وتحول الولاءات بين المعسكرات وفق المصالح والغنائم، لم يعد أحد يسأل عن المشاريع السياسية لهذا الطرف أو ذاك، وأحالت كثير من النخب عقولها إلى التقاعد، والتحقت برافعي الشعار الغوغائي: معانا معانا، عليهم عليهم..
في أوقات الهدنة والتسويات عادة ما تجد النخب فرصة للمراجعات والنقد والتأسيس والبناء، وتفادي الأخطاء والحسابات التي أثبتت التجارب أنها قاصرة عن بناء دولة وإقامة نظام سياسي حديث ومؤسسات ديمقراطية تحصن البلاد من الارتداد إلى حروب داحس والغبراء، وتمنح النخب وعموم المواطنين فرصة ممارسة السياسة بوصفها مشاريع تغيير ومضامين حداثية للرقي بالتعليم والصحة والثقافة والطفولة والمرأة والبنية التحتية والمعيشة، وتحرير العقول لتغادر مربعات القبيلة والجهة إلى آفاق المواطنة والقانون والحقوق والواجبات..
الهدنة الحالية؛ الهشة، في ليبيا، والتي لم تستقر على حال إلى حد الساعة، قد تكون سياقا مناسبا لإعادة السياسة إلى نصابها الإيجابي والانطلاق في صياغة مشروع وطني طويل الأمد، غير أن ما تشهده الساحة من التقاء على مصالح ضيقة بين شخصيات وجهات لم تكن لتلتقي على غير ذلك، لا تبشر بقرب انطلاق مسار الألف ميل..
وقبل ذلك وبعده، هل النخب السياسية التي تتصدر المشهد الحالي قادمة من كوكب آخر أم هي نتاج مجتمع وسياق بأكمله؟ وهل مطلب تغيير سلوك النخب قابل للتحقق خارج مطلب التغيير الاجتماعي العميق الذي يفكك التمثلات والذهنيات والتقاليد والبنى الثقافية العامة؟