هرب الناس منه فحملوه بين أمتعتهم... قصة الطاعون في أوروبا
شهد القرن الرابع عشر أسوأ كارثة سُجِّلَت في العالم عامة وأوروبا وايطاليا خاصة بين عامي 1346 و1353. وذلك بعد تفشي داء الطاعون حاصداً 50 في المئة من سكان القارة الذين أطلقوا عليه اسم "الموت الاسود"، حسبما ذكر المؤرخ النروجي أولي يروغن بنديكتو. واستمر في اجتياح أوروبا والشرق الأوسط وما حولهما خلال القرون الأربعة التالية، وكان يعاود الظهور كل عقد أو عقدين من الزمن...
الاسباب والعوارض
ربط أغلب المؤرخين ظهور الطاعون بصقلية أولاً بعد نقله من البحارة على متن السفن التجارية ليمتد نحو بقية المدن الأوروبية ويبلغ تدريجيا الجزر البريطانية عام 1348. فيما أعاد بعض الأوروبيبن سبب الإنتشار إلى القوى الفلكية والزلازل، بينما اتهم آخرون مجموعات يهودية بتسميم آبار المياه وراحوا ينتقمون ممن تحوم حولهم الشكوك بممارسة السحر والهرطقة عن طريق أعمال عنف الحرق طالت الآلاف من اليهود والمهاجرين الأجانب. وكان الأوروبيون ينشرون معهم المرض عند هروبهم من المناطق الموبوءة إلى أخرى سليمة، حيث كانت البراغيت المسببة للوباء تعشعش في عتادهم وأثاثهم وحتى ثيابهم.
طبياً، وبحسب منظمة الصحة العالمية،انتقل هذا المرض بين الحيوانات من طريق البراغيث ويمكن أن تنتقل عدواه إلى الإنسان عبر الحشرات التي سبق لها أن تغذت من قبل على القوارض أو الحيوانات المصابة النافقة منها والحيّة.
غالباً ما تشمل الأعراض ظهور حمى مفاجئة في البداية، ورعشة، وآلام في الرأس والجسم، وضعف وقيء وغثيان. وقد يظهر أيضاً تورمات مؤلمة في الغدد الليمفاوية ويضاف إليها أعراضاً تنفسية كالسعال الذي يصاحبه البلغم الملوث بالدم. قد ينبثق تورم كبير ومؤلم جدًّا تحت ذراع المريض، أو في فخذه، أو في لحظة قد يشعر بأنه بخير وكأنها "صحوة الموت" حيث في اللحظة التي تليها سيبصق دمًا، ودائمًا ما كان هذا البصق الدموي قاتلًا.
دور الكنيسة
أمام هذا الوضع، تدخل البابا كليمونت السادس (Clement VI) سنة 1348 ليطالب بوقف أعمال العنف من طريق المرسوم البابوي Quamvis perfidiam الذي حثّ من خلاله على حماية اليهود ووقف استهدافهم وتلفيق التهم لهم.
انتقل الطاعون من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، قضى على أسر بأكملها. بعض الأباء دفنوا جميع أطفالهم قبل أن يموتوا هم. حتى الكهنة مات أكثر من نصفهم بعدما شاركوا في تأبين الموتى ماتوا هم أيضا.
خشي الأطباء أن يعالجوا المرضى وتولَّت الراهبات رعاية المُحتضرين، ثم بدأن طريقهن نحو الموت. امتطى الرجال أحصنتهم وَفَرُّوا، حتى ضربهم المرض بعد بضعة أيام. وهكذا انتشر الطاعون كالنار في الهشيم.
واعتقاداً منهم أن هذا الوباء غضب إلهي لجأوا إلى الكنيسة للصلاة وعدد كبير من الناس الذين كانوا يجلدون انفسهم، كعقاب لأنفسهم معتبرين ان الاخطاء التي ارتكبوها هي السبب في تفشي هذا الوباء.
وفي عام 1522 سار المصلون في أرجاء روما يحملون صليباً خشبياً يتضرعون به للرب، كانت هذه المسيرة بنظرهم مسيرة الخلاص التي أنهت عذاب إيطاليا وسميَ الصليب بالعجائبي وها هو اليوم مرفوعاً في كنيسة "سان مارسيلو آل كورسو".
كيف تعايش الناس معه؟
اعتاد الأوروبيون الطاعون وتقبلوا الخسارة الفادحة التي تكبدها السكان بسبب المرض. ويشير الباحثان وليم نافي وأندرو سبايسر في كتابهما "الطاعون الأسود 1345-1730"، إلى أن الناس في تلك المراحل "اختاروا التوجه إلى الملاهي والحانات، وعاشوا كل يوم كما لو أنه الأخير".
ومن جهة اخرى، روى الكاتب الإيطالي بوكاتشيو (1313-1375) في كتابه الديكاميرون، كيف حجر عشرة فلورنسيين أنفسهم طوعاً خارج فلورنسا هربا من الطاعون.
علاج الطاعون
كان طاعون لندن العظيم هو آخر تفش كبير للمرض في إنكلترا، ويبدو أيضاً أن الطاعون كان قد اختفى من الأراضي الإسبانية والألمانية بعد القرن السابع عشر.
فيما يُعتبر طاعون مارسيليا في فرنسا (1720-1721) هو آخر تفش كبير للمرض في غرب أوروبا، لم يعرف المعاصرون دواء للطاعون سوى الهرب منه. لم يكن هناك علاجٌ معين للمرض. وقد اختلفت وجهات النظر حول كيفية التخلص من هذا المرض فبعض المؤرخين اعتبروا أن الصحة العامة كانت قد تحسنت إلى الحد الذي سمح بوقف انتشار الطاعون، لا سيما من خلال الاستخدام المنظم والفعال للتشريعات الصحية. في حين يشير آخرون إلى أن السبب هو التغيرات الهائلة في البشر أو القوارض أو في البكتيريا المسببة للمرض نفسها
ومع طول العهد بهذا الوباء، بدأ الأطباء والعلماء بالعمل على فهم مرض الطاعون وعلاجه بطريقة أفضل، وبخاصة من حيث منع وصوله وانتشاره في مجتمعاتهم. حدثت العديد من التطورات المهمة في تاريخ الطب والصحة بفضل الطاعون، مثل: إحياء علم التشريح واكتشاف الدورة الدموية وتطور إجراءات الصحة العامة